7/8/2019
الأمن البحري في الخليج بين أمريكا وأوروبا
تُعد التوترات التي تسود الخليج العربي، اليوم، في أشد حالاتها منذ عقود، والتي يمكن القول إنها ترجع إلى عام 1980، في ذروة الحرب العراقية الإيرانية، وقد نجمت عن تصاعد التوترات الأمريكية الإيرانية، مع حملة «الضغط القصوى» التي يقودها الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»؛ بما في ذلك فرض العقوبات والعزلة الدبلوماسية، الأمر الذي أثار غضب إيران في المنطقة.
وبلغت التوترات أوجها مع سلسلة الهجمات التي تتعرض لها السفن وحركة الملاحة والشحن في الخليج من قِبَل إيران؛ فقد احتجزت البحرية البريطانية الملكية ناقلة نفط إيرانية قبالة سواحل جبل طارق؛ حيث كانت تنقل النفط إلى سوريا في انتهاك واضح لعقوبات الاتحاد الأوروبي، ورد الحرس الثوري الإيراني في 19 يوليو 2019 بالاستيلاء على الناقلة البريطانية «استينا إمبيرو» في مضيق هرمز.
لذا بدأت بريطانيا وبعض حلفائها، أبرزهم الولايات المتحدة، بطرح خطط لحماية السفن الغربية في الخليج، وقد انعقد اجتماع بينهما إلى جانب فرنسا وألمانيا في البحرين، يوم الأربعاء الموافق 31 يوليو 2019؛ لبحث هذه الخطط. ومع ذلك، فإن الانقسامات السياسية والجيوسياسية العميقة تُعرقل جهود هذه الدول في هذا الصدد، فضلا عن سعي دول أوروبية إلى حل القضية بعيدًا عن الولايات المتحدة. وبناء عليه، سيبحث هذا المقال مواقف الدول الآتية: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا وإيران، من أجل تقييم ردود أفعالها الدولية المتوقعة حيال تهدئة حالة التصعيد وحل أزمة الخليج، وكيف سيؤدي ذلك إلى تغيير وضع الخليج العربي المعاصر وديناميكيته السياسية.
يقول الاتحاد الأوروبي إن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن تصاعد الأعمال العدائية في الخليج بعد انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة، أو من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018، وجدت بريطانيا نفسها في واجهة الأزمات القائمة في المنطقة، لذا تزعمت الجهود الغربية لحماية السفن العابرة لمضيق هرمز.
يقول دان صباغ، محرر في الشؤون الأمنية والدفاعية، في صحيفة الجارديان: «كانت الحكومة البريطانية السابقة تأمل تحقيق النجاح في أن تكون حلقة وصل بين الولايات المتحدة؛ صاحبة أكبر وجود عسكري غربي في المنطقة، والدول الأخرى، مثل: ألمانيا؛ العازفة عن التورط في أي مهمة تقودها واشنطن تؤدي إلى توتر ما»، ولكن بنجاح بوريس جونسون في تسلم زعامة حزب المحافظين ومن ثم أصبح رئيس وزراء محل تيريزا ماي، تغيرت استراتيجية الحكومة البريطانية الجديدة التي وُصفت من قبل المحللين بالمضطربة.
نتج عن ذلك وجود خطتين منفصلتين لحل الأزمة؛ إحداهما تتسم بالعدائية تتزعمها الولايات المتحدة، والأخرى هي المفضلة والمرغوبة التي تتزعمها كل من فرنسا وألمانيا. وقد أفاد جيريمي هانت وزير الخارجية البريطاني السابق تفضيله الأخيرة؛ بينما أفاد دومينيك راب وزير الخارجية البريطاني الجديد، الأكثر تحفظًا وتأييدًا لضرورة التعاون الأطلسي عن سابقه، بتفضيله الخطة الأولى.
وقد كانت وزارة الخارجية الأمريكية واضحة بشأن تفاصيل الخطة التي تتوقع أن تكون أكثر نجاحًا، إذ ستشمل العملية التي تُسمى «الحارس»، وهي عملية بحرية متعددة الجنسيات في الخليج لزيادة المراقبة والأمن في المجاري المائية الرئيسية في الشرق الأوسط، وإنشاء إطار أساسي يُمكّن دول المنطقة من توفير حراسة لسفنها التي ترفع علمها مع الاستفادة من تعاون الدول المشاركة للتنسيق وتعزيز الوعي بالمجال البحري ومراقبته. وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في مداخلة أثناء جلسة للنادي الاقتصادي بواشنطن: «سنضع خطة للأمن البحري بالخليج، وسيستغرق الأمر وقتًا أكثر مما نرغب، لكنني أثق تمام الثقة أن العالم يدرك أهمية ما نفعله، وأن أمريكا على أتم الاستعداد لأن تُصبح جزءًا من هذا، لكننا نحتاج من جميع دول العالم أن تساعدنا في حماية النقل التجاري».
ولا تحبذ الدول الأوروبية الخطة الأمريكية بأكملها، نظرًا إلى أنها فشلت في إنشاء إطار حماية مناسب للبلدان التي تفتقر إلى القدرة البحرية الكبيرة، إذ إن معظم الدول، بخلاف الولايات المتحدة، لا تستطيع تحمل النفقات أو امتلاك عدد السفن الحربية المطلوبة لحماية عمليات الشحن الخاصة بها من دون مساعدة أجنبية.
وقد أعربت دول مثل فرنسا وألمانيا، وحتى بريطانيا في ظل وجود وزير الخارجية البريطاني السابق «هانت» عن قلقها المتزايد حيال هذا الأمر، إذ قال في أواخر يوليو 2019: «إن بريطانيا لن تُشارك في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة بممارسة أقصى ضغط على إيران؛ لأننا سنظل ملتزمين بالمحافظة على الاتفاق النووي مع إيران»، وهو الأمر الذي أكده أيضا وزير الخارجية الألماني هايكو ماس.
ولذا ابتكر الأوروبيون مبادرتهم الخاصة، وهي تختلف عن عملية «الحارس» الأمريكية في أنها تقترح تشكيل مجموعات بحرية تتكون من مجموعة سفن من دول مختلفة لمرافقة سفن الشحن التجاري عبر الخليج بصرف النظر عن علم الدولة المرفوع عليها، وبناء عليه تُصبح إيران جزءًا من هذه الخطة، ومن ثم يصبح الطريق ممهدًا أمام محاولة التوفيق بين أوروبا وإيران. وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في بيان له: «تهدف مبادرتنا إلى نزع فتيل التوترات وتخفيف حدة التصعيد؛ فهي تختلف اختلافًا كليًّا عن الخطة الأمريكية المعنية بممارسة أقصى ضغط على طهران».
ونظرًا إلى طبيعة بريطانيا التصالحية مع جميع الدول، فمن المحتمل أن يختار وزير خارجيتها دومينيك راب دعم المبادرة الأوروبية لحماية سفن الشحن في الخليج، على الرغم من إيثاره العمل على تأسيس شراكة أنجلو-أمريكية على المستوى الأمني. وأوضح جوليان بارنز من برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن الانضمام إلى «المبادرة الأوروبية يمكن أن يحسن أيضًا علاقة بوريس جونسون بنظرائه الأوروبيين قبيل مفاوضات خروج بريطانيا (بريكست)».
ومن المرجح ألا يُكتب النجاح للخطة الأكثر استفزازية التي تقودها الولايات المتحدة، لكن إيران متوجسة من احتمالية أي وجود لقوات بحرية غربية في الخليج. وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني: «إن وجود قوات أجنبية لن يساعد في تهدئة أمن المنطقة، بل سيكون عاملا رئيسيًّا للتوتر»، كما أكد أيضًا مطالبة إيران بأنها إلى جانب سلطنة عُمان هما المعنيان بشكل أساسي بحركة الشحن في مضيق هرمز.
وقد أثبتت الجهود الأوروبية الرامية إلى طمأنة طهران بأن أي وجود غربي لن يشكل تهديدا لأمنها القومي حتى الآن عدم جدواها، وهاتف إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا، نظيره الإيراني يوم الثلاثاء 30 يوليو 2019؛ من أجل إعادة تأكيد دعوته إلى وقف التوترات بين إيران والولايات المتحدة، كما وصل عباس أراغشي نائب وزير الخارجية الإيراني إلى باريس؛ يوم 2/8/2019 لإجراء محادثات مع المسؤولين الفرنسيين.
ومع ذلك، كما يلاحظ بعض المحللين، تظهر عوامل تقيد إقدام إيران على أي عمل عسكري ردًّا على الوجود المُتزايد للقوات البحرية التابعة للدول الغربية في الخليج، أولها هو أن إيران لا تريد إثارة حرب، فهي تُقر بأنها أضعف من التحريض على شن هجوم أمريكي لتهديد أو تدمير مصالحها، أو مصالح حلفائها. ومن هنا، فمن المتوقع أن يكون الرد العسكري الإيراني على محاولات الحماية الغربية لحركة للشحن البحري محدودا.
وتقول سوزان مالوني، نائبة مدير السياسة الخارجية في معهد بروكينجز: «إن المسؤولين الإيرانيين، وعلى الأخص وزير الخارجية، كانوا يهرولون في الآونة الأخيرة نحو الحوار الدبلوماسي مع واشنطن، كما أن استفزازات طهران في الخليج يمكن اعتبارها جزءًا مهمًّا من استراتيجية التفاوض عبر التودد من جهة والتهديد من جهة أخرى، وهي استراتيجية تعزز مبدأ الإقناع عبر الترهيب»، وعند جمع هذه العناصر معًا نستنتج أن الإيرانيين يهيئون الوضع للتفاوض، بدلا من سعيهم للتحريض على الدخول في نزاع؛ ما يُعطي إشارة على أنهم لن ينزلقوا للدخول في صراع ردًّا على التطورات الأخيرة.
ومن ناحية أخرى، هناك بعض الدلائل على سعي ترامب إلى تجنب التوترات المتصاعدة من خلال تقليل حدة حملته التصعيدية؛ ففي 30 يوليو ذكرت صحيفة (واشنطن بوست) قرار الإدارة الأمريكية مواصلة عدد من إعفاءات العقوبات للشركات التي تعمل في تطوير البرنامج النووي المدني الإيراني، وقال مايكل دوران كبير زملاء معهد هدسون الأمريكي لمجلة بوليتيكو الأمريكية: «تخشى الإدارة الأمريكية أنه إذا ألغت تلك الإعفاءات وتم استفزاز النظام الملالي فإنها تخاطر بتصعيد المواجهة العسكرية بين طهران وواشنطن».
وربما يضعف هذا الإجراء عن قصد أو غير ذلك حملة الضغط القصوى على إيران، وفي هذا الصدد قال مارك دوبويتز، المدير التنفيذي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية والمتخصص في الشؤون الإيرانية: «يكمن هدف السياسة الأمريكية في زيادة الضغوط القصوى على إيران، والإبقاء على هذه الإعفاءات لن يؤثر مطلقًا على حملة الضغوط القصوى التي تقودها الولايات المتحدة».
ولا تزال هناك جهود أوروبية مستمرة نحو المصالحة مع إيران، ففضلا عن الجهود المبذولة لحماية حركة الشحن في منطقة الخليج وهي الأبرز، مازال الموقعون الأوروبيون على الاتفاق النووي ملتزمين بدعم الاتفاق على الرغم من حملة الضغط الأمريكية، ويرجع الفضل إلى تلك الدول الأوروبية في تطوير وإنشاء قنوات لتسهيل الأعمال التجارية والمالية المشروعة مع إيران عبر آلية دعم التبادل التجاري بينها وبين إيران والمعروفة باسم (إينستكس).
على العموم، من غير المرجح أن يتجاوز العداء الإيراني مسألة الرفض والانتقاد الخطابي للخطط والاستراتيجيات العدائية الغربية، ومن المحتمل أن تكون هناك الكثير من العوامل المختلفة التي تقيد سلوك إيران العدائي بالمقابل، منها: عدم رغبتها في إثارة أي هجوم من قِبَل الولايات المتحدة، وقرار ترامب الأخير السماح لبعض الإعفاءات من العقوبات واستمرار العمل بها، والجهود الأوروبية المستمرة لدعم الاتفاق النووي، وهو الكفيل بخلق حالة من التوافق والتصالح مع الدول الغربية.
ومع أن حالة التصعيد ربما تتضاءل، فإن الوضع المستمر في الخليج لديه القدرة على تهدئة وطأته بسرعة في أي وقت، على الرغم من عمليات الاحتجاز للناقلات النفطية والهجمات في الأسابيع الأخيرة.