18/12/2021
لماذا تواصل إيران عرقلة المحادثات النووية؟
بعد استئناف المفاوضات النووية في نوفمبر 2021، انخفضت توقعات نجاح هذه المفاوضات لدى المعلقين الغربيين؛ حيث سيطر المتشددون في طهران على الموقف التفاوضي، سعيا منهم لتخفيف بعض العقوبات عن اقتصادهم المتعثر، ولكسب مزيد من الوقت لتطوير قدرات طهران النووية. ومع ذلك، فإن فرض إيران لسلسلة جديدة من المطالب، بجانب إصرارها على إعادة النظر في جميع التزاماتها السابقة، أدى إلى انتكاسة المفاوضات أكثر من أي وقت مضى.
وفي إدراك لذلك، ازداد التوتر لدى حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين، وخصوصا إسرائيل، خوفا من أن واشنطن غير قادرة على إقناع إيران بالتصرف بجدية، وأن الأخيرة هي من وجهت مجرى المحادثات، وتولت زمام المبادرة، بدلاً من القوى الغربية، أو الموقعين الآخرين على الاتفاقية، وأدت هذه الديناميكية إلى رفض المعلقين الإقليميين اعتماد واشنطن مؤخرا على الصين وروسيا للتأثير على طهران، باعتباره خطأ من غير المرجح أن ينجح. وذكرت «كريستينا لو»، من مجلة «فورين بوليسي»، أنه بعد أسبوع من «التوترات» في المفاوضات المستأنفة في فيينا، اضطر الدبلوماسيون والمسؤولون إلى «تعليق المحادثات» في «3 نوفمبر 2021، بسبب الموقف المتشدد الجديد لإدارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، المسؤول الأول عن حالة الجمود الحالية». فيما أوضح «دان لوس»، و«أبيجيل ويليامز»، من شبكة «إن بي سي نيوز»، أن طهران تتبنى «نهجا عدوانيًا»؛ تتراجع فيه عن «جميع التنازلات» التي قدمتها خلال المفاوضات السابقة، كما «أصرت على فرض تنازلات» على الوفود الأخرى.
وفي حين قوبل هذا النهج بالرفض من جميع الموقعين على «الاتفاق النووي»، إلا أنه كان متوقعا، فمن المعروف أن إيران تحاول كسب الوقت على أمل تأخير المفاوضات بشكل كافٍ لتعزيز قدراتها النووية، فضلاً عن ضمان وعود من الغرب بتخفيف العقوبات قبل البدء في مفاوضات جادة. وكما يرى «عومير كرمي، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، فإن طهران «جعلت» من «رفع واشنطن جميع العقوبات، وتوثيق إزالتها، وتوفير ضمانات مستقبلية شرطا أساسيا»، قبل أن تحرك «ساكناً»، «نحو أي عودة محتملة إلى الاتفاق النووي».
علاوة على ذلك، فإن عرقلة إيران للمحادثات ليست أمر مفاجئًا، نظرًا إلى أن المرشد الأعلى «خامنئي» صرح سابقًا في يناير 2021 بأن طهران ليست «في عجلة من أمرها»، بشأن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، محذرا كبار المسؤولين الحكوميين في طهران من «الربط بين خططهم والمفاوضات مع الغرب، حيث إن المفاوضات تتجه لا محالة إلى الفشل».
وفي الواقع، لم تنجز هذه التكتيكات سوى القليل لبناء جو من التفاهم والتعاون. برأي «كلير باركر»، في صحيفة «واشنطن بوست»، «فإن المحادثات يغلب عليها شعور بانعدام الثقة»، حفز هذا الشعور إصرار الوفد الإيراني على أنه ملتزم بالطريق الدبلوماسي في تناقض صارخ مع أفعاله، حيث قال وزير خارجية طهران «حسين أمير عبداللهيان» لمنسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل» إن نظامه لديه «نوايا حسنة تهدف إلى تحقيق اتفاق جيد».
وبعيدًا عن طاولة المفاوضات، فإن طهران قوضت المحادثات بشكل كبير من خلال تصعيد طموحاتها النووية. وبحسب «دينيس روس»، من «معهد واشنطن»، فإن إيران «جعلت برنامجها النووي أكثر تهديدًا» في الفترة التي سبقت محادثات فيينا، حيث استغلت مزاعم التخريب الإسرائيلي كذريعة لتبرير أعمال ليس لها علاقة على الإطلاق بالاستخدام السلمي للطاقة النووية». وبالفعل، أصبحت الآن قادرة على تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء تصل إلى 60%، ما يعني أنها تقترب ببطء من الوصول إلى90% من النقاوة اللازمة لاستخدام اليورانيوم في صنع أسلحة. وكما أكدت «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، التابعة للأمم المتحدة، فإنها بدأت تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 20% في منشأة تحت الأرض في فوردو، جنوب مدينة قم، وذلك في موقع غير مصرح به بموجب بنود «الاتفاق النووي» لعام 2015. ووفقًا لـ«كارين ديونغ»، من صحيفة «واشنطن بوست»، فقد أدت هذه التطورات إلى تقليص الفترة الزمنية اللازمة لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية واحدة، من عام إلى أقل من شهر.
وعليه، ترى «سوزان ديماجيو»، من «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، «أن الفريق الإيراني الجديد يعتقد أن الوقت في صالحه، حيث يستخدمه كورقة ضغط لتعزيز البرنامج النووي». لذلك، يعتقد «كرمي» أنه من المرجح أن تستمر مطالب طهران «المغالى فيها»، خلال الفترة الأولى من المفاوضات. وأكد «مارك فيتزباتريك» من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» أن هذه «المطالب غير الواقعية» جعلت العودة إلى الاتفاق النووي «غير مرجحة». وفي تأييد لهذا، يرى «ستيفن إيرلانجر»، من «نيويورك تايمز»، أن المفاوضات تتجه إلى «الانهيار»، ما لم تغير طهران تكتيكاتها التفاوضية بشكل جذري.
ومع ذلك، فإن نهج إيران الذي قوى موقفها في بداية المفاوضات ليس ضامنًا للنجاح على المدى الطويل. وبحسب «ستيفاني ليختنشتاين»، من «بوليتيكو»، فإنه في حين أن إيران قد «تحسب أن تقدمها النووي سيمنحها المزيد من النفوذ على طاولة المفاوضات؛ فإن هذا قد يأتي أيضا بنتائج عكسية؛ نظرا إلى أنه لم يبق وقت للتفاوض بشأن العديد من المطالب الإيرانية الجديدة».
من ناحية أخرى، هناك شعور واضح بالإحباط الشديد من الموقف الإيراني لدى الغرب، فضلا عن خوف عامّ من عدم وجود بدائل قابلة للتطبيق في الوقت الحالي، سواء في فرض المزيد من العقوبات أو غيره. لذلك، يبدو أن طهران استفادت من المماطلة، حيث يرى «كرمي» أن هذه «العرقلة» المتعمدة للمفاوضات قد «وضعت الكرة في ملعب المجتمع الدولي»، وهو أمر «يجب أن يردوا عليه الآن».
وعلى الرغم من استمرار القوى الغربية في تأكيد رغبتها في التوصل إلى تسوية دبلوماسية خلال محادثات فيينا، فقد انتقدت في الوقت ذاته النهج الإيراني. وحذرت «الخارجية الأمريكية» من أن الممثلين الإيرانيين «لم يأتوا إلى فيينا بمقترحات بناءة»، بينما اتهم الأعضاء الأوروبيون، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، طهران أيضًا بـ«التراجع عن جميع التعهدات والالتزامات تقريبًا التي تم الاتفاق عليها» في المفاوضات السابقة، حيث أشار أحد كبار الدبلوماسيين الإيرانيين إلى أنه «من غير الواضح كيف يمكن تجاوز التحديات الراهنة في إطار زمني واقعي على أساس المسودات والرؤى الإيرانية».
ومع ذلك، فإن الخيارات المتاحة للمفاوضين الغربيين أصبحت محدودة. وأشارت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أنهم «في حيرة من أمرهم بشأن كيفية الرد على الخدع الدبلوماسية الإيرانية». وأفادت «باركر» بأن «واشنطن أعربت جديًا عن عدم رغبتها في رفع العقوبات المتعلقة بحروب إيران بالوكالة في المنطقة وغيرها من القضايا الأخرى»، وأنه «من المستحيل على بايدن التعهد بأن الإدارات الأمريكية المستقبلية لن تتراجع عن أي اتفاق تم إبرامه مع كافة الأطراف الدولية».
ووفقًا لـ«باركر»، «يمكن أن تتضمن الخطة «ب» المحتملة، بالنسبة للولايات المتحدة في حال فشل المفاوضات، زيادة العقوبات بما في ذلك اعتراض مبيعات النفط الموجهة إلى الصين، بالإضافة إلى «إجراء اتفاق نووي مؤقت على نطاق زمني مصغر»، فضلاً عن «تنفيذ عمليات سرية لتخريب برنامج إيران النووي»، أو في معظم الحالات قد يتم الاتفاق على شن «عمل عسكري في نهاية الأمر». وفي مقابل ذلك، أشارت إلى أن «العقوبات الأمريكية قد تكون واسعة بالفعل إلى درجة أن التهديد بفرض المزيد يفقد تلك العقوبات الفاعلية والتأثير ذاته الذي كان في السابق».
ومع الوضع في الاعتبار كل هذه الخيارات، تعتمد واشنطن الآن أيضًا على الموقعين غير الغربيين للاتفاق النووي؛ للضغط على طهران. وأفاد «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، بأن «الولايات المتحدة تأمل في أن يقنع الضغط من جانب روسيا والصين إيران بتعديل موقفها التفاوضي»، غير أنها ترى مع ذلك أن موسكو وبكين أيضًا «فوجئتا بسبب درجة التراجع لدى إيران بشأن تنازلاتها وتعهداتها السابقة». واعتبر «وينتور» أن نهج وموقف الصينيين والروس أصبح «حرجًا»، بالنظر إلى أن إيران يفترض أنها تستطيع «الابتعاد والتخلي عن محادثاتها مع الدول الغربية»، و«تمويل أجندتها وخططها الاقتصادية المحلية من خلال تجارتها مع الشرق».
ومع ذلك، حذرت «باركر» من أن الصين «يمكن أن تشكل أيضًا تحديًا كبيرًا» لمستقبل ومصير المفاوضات بالنظر إلى أن «إيران المسلحة نوويًا قد لا تمثل تهديدًا هائلاً بالنسبة إليها كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل أو القوى الغربية». ومع «التوترات المتصاعدة» بين كل من واشنطن وبكين بشأن القضايا الجيوسياسية الأخرى، تهدد الأخيرة أيضًا بتثبيط حجم تعاونها بشأن التوصل إلى اتفاق نووي. وأوضحت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن مشكلة كبرى تجسدت تحديدًا في أن كلا من إيران والصين وروسيا «لا يبدو أنهم يصدقون أن بايدن يمكن أن يفعل أي إجراء ما لمنعهم من السعي لتأسيس هيمنة إقليمية جديدة.
وفي ضوء هذه الخيارات، تم إثارة خيار اللجوء إلى المسار العسكري بشكل متزايد من قبل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وحذر المتحدث باسم البيت الأبيض من أن نهج إيران الحالي «سيؤدي حتمًا إلى أزمة». وأشار «وينتور» إلى أن واشنطن «مضطرة أيضًا إلى معالجة المطالب والمخاوف الإسرائيلية، وأن إيران متورطة في ابتزاز نووي تستخدمه كتكتيك للتفاوض. وأوضح «جوزيف فيدرمان»، من وكالة «أسوشيتد برس»، إلى أن إسرائيل «كثفت خطابها» في الأيام الأخيرة، بينما وصفها «باركر» بأنها «تحاول إفشال المحادثات»، و«تضغط على واشنطن للتخلي عن المناقشات». وكجزء من ذلك، دعا وزير خارجيتها «يائير لابيد» إلى إعادة النظر في خيار «التهديد العسكري ضد طهران لإجبارها على العودة إلى طاولة مفاوضات جادة».
وعلى الرغم من خطر تسلح إيران نوويًا؛ فإن مشهد الصراع والتصادم معها لا يروق للغرب. وأشار «ستيفن إيرلانجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن واشنطن «ستواجه قريبًا أسئلة أكثر جدية» حول كيفية «كبح جماح «طهران والوفاء بتعهدها بأنها لن تسمح لها أبدًا بامتلاك سلاح نووي». وأكد «علي فايز»، من «المجموعة الدولية للأزمات»، أن التورط العسكري الأمريكي في الصراع بين إسرائيل وإيران حول القضايا النووية هو «السيناريو الأسوأ لإدارة بايدن»؛ لأنه سيرسم «ممرًا من الفوضى» يمتد على طول «الطريق من حدود أفغانستان إلى حدود إسرائيل»، وبذلك تطول دولاً أخرى، مثل العراق وسوريا والخليج العربي. وحذر «وينتور» من أن «هجومًا عسكريًا إسرائيليًا على المواقع النووية الإيرانية» من شأنه «إنهاء أي فرصة لنجاح أي ضغط روسي أو صيني فعال على إيران لتغيير تكتيكاتها التفاوضية».
على العموم، يبدو أن احتمال نجاح المفاوضات مع إيران ضعيفً في الوقت الحالي، بالنظر إلى أنها كشفت عن موقفها التفاوضي بوضوح قبل المحادثات، مؤكدة عدم استعدادها لتقديم أي تنازلات قبل تأمين التخفيف الكامل للضغوط من جانب واشنطن، وهي عوامل كانت بمثابة حجر عثرة أمام إبرام اتفاق نووي جديد. ومن ثمّ، تتزايد المخاوف الأوروبية من أن تضيع شهور من المناقشات المكثفة لإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات هباء، فضلاً عن الخوف من أن تصبح أكثر عدوانية وتتصاعد التوترات. والأهم من ذلك أن إسرائيل يبدو أن لديها الإرادة لمواجهتها عسكريًا، إذا لم تتقدم المفاوضات إلى الأمام؛ وهو الأمر الذي يمكن أن يكون له تداعيات كارثية على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
وعليه، فإن رغبة طهران في الجمع بين الاستمرار في «التطور النووي»، وتلبية «المطالب المتشددة»، قد جعلت «طريق الاستمرار إلى الأمام مستحيلا»، وعلامة على تعثر أي مفاوضات جدية قبل البدء فيها مستقبلاً.