28/12/2021
الانسحاب من أفغانستان ومستقبل مكافحة الإرهاب
أثار انسحاب قوات الناتو من أفغانستان في أغسطس 2021، وإعادة التنظيم الاستراتيجي للولايات المتحدة نحو منافسة القوى العظمى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ جدلاً كبيرًا، حول مستقبل عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية، وكيفية تناسب هذه العمليات مع السياسة الخارجية الشاملة للبلاد في المستقبل، بالنظر إلى أنه من المرجح أن يكون للتغييرات المحتملة في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب، والتغييرات داخل الجماعات الإرهابية الدولية نفسها؛ تداعيات على أمن منطقة الشرق الأوسط، التي اعتمدت فيها العديد من الدول تاريخيا على واشنطن كضامن للأمن.
وفي ضوء هذه الديناميكيات، عقد «معهد كوينسي»، بواشنطن، ندوة بعنوان «مستقبل مكافحة الإرهاب.. البداية تكمن في تحديد التهديدات»، بهدف بحث مستقبل مكافحة الإرهاب الأمريكية، والوضع الحالي للمنظمات الإرهابية الجهادية حول العالم؛ أدارها «ستيفن سيمون»، من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، وشارك فيها «جيتي كلاوسن»، من جامعة «برانديز»، و«باكلين هازلتون»، من «الكلية الحربية البحرية الأمريكية»، و«بول بيلار»، مسؤول المخابرات الوطنية الأمريكية السابق لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا، و«كيلي فلاهوس»، أحد كبار المستشارين بالمعهد.
في البداية، ذكرت «فلاهوس»، أنه «ليس هناك وقت أفضل من الآن» لطرح هذا الموضوع، «بعد ثلاثة أشهر فقط من الانسحاب العسكري للولايات المتحدة والناتو من أفغانستان»، ما أثار تساؤلات حول مستقبل «الدور الأمني» الأمريكي في المنطقة بأكملها، خاصة أنه منذ تولي «بايدن»، منصبه في يناير2021، كانت – ومازالت - إدارته «كتومة»، فيما يتعلق باستراتيجيتها الشاملة لمكافحة الإرهاب في «الشرق الأوسط الكبير».
من جانبه، أثار «سيمون»، موضوع «التهديد الإرهابي للولايات المتحدة»، متسائلاً عن «طبيعته الحالية، وكيفية اختلافه عن التهديد الذي واجهناه منذ 20 عامًا»، والتغييرات السياسية، التي تقتضيها هذه المرحلة». فيما أعربت «كلاوسن»، عن «قلقها البالغ»، من أن القوى الغربية، «استهانت مرارًا وتكرارًا»، بقدرات الجماعات الجهادية المتطرفة ومثابرتها ومدى تمددها. وعلى وجه الخصوص، وصفت تنظيم «القاعدة»، بأنه «منظومة متكاملة»، غالبًا ما تم تجاهل «درجة تكاملها وتنظيمها» في بعض الدوائر، لاسيما، في وسائل الإعلام الغربية الرائجة، وأنه عند مناقشة هذه القضية، من المهم «النظر إلى الصورة الكبيرة»، «ففي كل مرة اعتقدنا أنه هُزم، عاد التنظيم أقوى» و«أكثر انتشارًا».
واستكمالا، وصفت الحرب الأهلية السورية، بأنها كانت بمثابة «خط إمداد بالقوى البشرية والموارد والخبرة للتنظيم»، ما ساهم في أن تصبح «القاعدة أقوى بعشر مرات»، مما كانت عليه قبل هجمات 11 سبتمبر». وعن كيف يمكن لمثل هذه الجماعات المتطرفة أن تكون «تهديدًا مباشرًا» للولايات المتحدة؛ رأت أن «إمكانية تكرار هجمات على غرار 11سبتمبر»، لم تعد «مطروحة»، حيث تحول تركيز «القاعدة»، بعيدًا عن مثل هذه الأعمال، بعد أن تطور تهديدها الآن إلى «تمرد مستمر»، يتألف من «جماعات مختلفة تستولي على الأراضي» من «غرب إفريقيا إلى شرقها»، و«عبر الشرق الأوسط إلى آسيا». وفي إشارتها إلى انسحاب أمريكا من أفغانستان، أقرت بأن «القيادة العليا» للقاعدة، حصلت «الآن» على «ملاذ آمن»، يمكنها من خلاله التخطيط وتنفيذ العمليات في الخارج.
وخلصت «كلاوسن»، إلى أن «الصورة الأمنية العالمية تغيرت بشكل كبير»، ما أدى إلى وجود «عدد كبير من الصراعات متوسطة المدى، وصراعات أقل»؛ تهدف من خلالها «الجماعات المسلحة» إلى تقليص النفوذ الغربي، و«زعزعة استقرار الحكومات المحلية». وبالتالي، فإن التهديد الذي تواجهه الولايات المتحدة، موجه نحو «برنامج العولمة»، بما في ذلك جهود واشنطن في «نشر الاقتصادات الليبرالية»، و«تعزيز الديمقراطية والاستقرار» في إفريقيا والشرق الأوسط. وعما إذا كانت هذه الاستنتاجات «تنطوي» على أي تغييرات مباشرة على صعيد السياسة الخارجية للولايات المتحدة. استحضرت «كلاوسن»، النموذج الأمني لـ«الحرب على الإرهاب» في ردها، موضحة، أننا «نحتاج إلى التفكير في هذه المعركة»، على أنها «حرب احتواء» ذات طبيعة «دائمة».
وفي تحليلها للاتجاهات الحالية في مكافحة الإرهاب، لاحظت «هازلتون»، أن «بعض الهجمات» على المصالح الأمريكية في الداخل والخارج ستكون «حتمية»، لكن «غالبية الجماعات الإرهابية تركز الآن على حكومتها وشعبها»، بدلاً من مهاجمة المصالح الغربية والأمريكية مباشرة، مؤكدة أن هناك «خلافًا»، حول ما إذا كان «مركز القاعدة قد تدهور»، حيث «تميل إلى أن قدرات التنظيم قد تقلصت بشدة في العشرين عامًا الماضية. ولذلك، قالت إن «التهديد الأكثر إلحاحًا» ينبع من «الجماعات الجهادية التي تقاتل حكوماتها»، وأن هذا يمثل خطرًا على «تلك الحكومات وتلك الشعوب»، وليس الولايات المتحدة.
وتعليقًا على وجود جماعات لا تزال تمتلك «الإرادة» لمهاجمة الولايات المتحدة، أشارت «هازلتون»، إلى أن «قدراتها محدودة للغاية»، ووصفت هجمات 11 سبتمبر، بأنها كانت «عفوية»، مقارنة بغيرها من الهجمات الأخرى على مستوى العالم. وعلى النقيض من هذه الهجمات واسعة النطاق، أشارت إلى الاتجاه السائد في أمريكا ودول أوروبا الغربية، لما يُسمى بـ«هجمات الذئاب المنفردة»، والتي يرتكبها أفراد فرادى، عوضًا عن المنظمات، مضيفة أن، تلك الهجمات، وإن كانت «مأساوية»، فهي لا تمثل «تهديدًا وجوديًا» لأية دولة، رغم توقعها أنه «من المرجح أن تستمر على طريقتها المتناثرة». ومن منظور مكافحة الإرهاب، لاحظت أنه «من الصعب جدًا»، منع فرد، أو مجموعة صغيرة من «محاولة قتل الكثير من الأشخاص في فترة زمنية قصيرة»، وأشارت في هذا إلى صعوبة مماثلة تواجهها الولايات المتحدة لمنع حوادث إطلاق النار بالمدارس، والتي وقعت خلال السنوات الأخيرة.
وبالتركيز على التهديد الإرهابي المحتمل للولايات المتحدة نفسها، أوضح «بيلار»، أن الأمر «لن يكون مسألة مجموعة ثابتة من الأشرار»، بل سيعتمد إلى حد كبير على أن ما تفعله واشنطن قد يحفز «الناس» على اللجوء إلى التكتيك المتطرف للإرهاب، معترفا، بأن التهديد الإرهابي لواشنطن، لا تتم مناقشته غالبًا بهذه المصطلحات؛ لأنه «يبدو كثيرًا»، مثل إلقاء اللوم عليهم؛ «لأنهم أصبحوا ضحية»، لكنه أصر على أن المخاطر المستقبلية من الهجمات الإرهابية «ستزيد»، وتكون مسألة كراهية «لتورط أمريكا في أقاليم ما وراء البحار، بما في ذلك «وجود وأنشطة الجيش الأمريكي».
واستمرارًا في عرض أفكاره، أوضح ضابط المخابرات الوطنية السابق، أنه في بعض الظروف، «ما نفعله باسم مكافحة الإرهاب يمكن أن يأتي بنتائج عكسية»، مشيرا إلى الضربة الأمريكية الأخيرة بطائرة مسيرة في أفغانستان، والتي أسفرت عن مقتل «مدنيين أبرياء»، وهو الأمر الذي قال إنه تكرر «في كثير من الأحيان» خلال «ما يسمى بالحرب على الإرهاب».
ومرددًا ملاحظات «هازلتون» السابقة، أكد أيضًا أن الهجمات المستقبلية ضد الولايات المتحدة سترتكب من قبل «أفراد وخلايا صغيرة»، ليسوا قادرين على اتباع «أسلوب 11سبتمبر المذهل». وتأكيدا لحجته، أوضح أنه من الصعب اكتشاف مثل هذه الهجمات التي ينفذها أفراد، وذلك من وجهة نظر استخباراتية، فضلًا عن المستوى الأكبر بكثير من الموارد المخصصة الآن لمنع الهجمات، لا سيما في «قطاع الطيران المدني»، مؤكدا أن مثل هذه التهديدات ليست «مقيدة جغرافيًا»، وأن «استهداف مبان أو منشآت بعينها على غرار هجمات سبتمبر، هي أحد الأهداف الأقل أهمية» للأنشطة الإرهابية ضد الأهداف الأمريكية.
وفي ختام ملاحظاته، أكد «بيلار»، أنه عند مناقشة التهديدات الإرهابية، «نحتاج إلى أن نضع في الاعتبار المدى الحقيقي وطبيعة هذه القضية، بالمقارنة مع «مشاكل السياسة العامة الأخرى»، فضلا عن المقارنة بين الخسائر الناجمة عن الإرهاب، وبين الضحايا «المرتبطين بالمناخ، والكوارث الطبيعية»، وكوفيد 19»، مشيرا أيضًا إلى التهديد الذي تتعرض له الولايات المتحدة من قبل «المتطرفين المحليين الأخرين، خاصة اليمينيين»، والذي «قد تضاعف في ظل القلق الأمريكي من عودة الجهاديين الأجانب من الحربين الأهليتين السورية والعراقية»، لاسيما وأن المجتمع الأمريكي يعاني من «الزينوفوبيا»، ويُقصد بها إرهاب الأجانب وعدم الثقة فيهم، والتي بدأت تثير حالة من الانقسام والعنصرية».
وحول فكرة أن سياسة واشنطن نفسها هي من تحفز النشاط الإرهابي الدولي، أوضحت «هازلتون»، أن وجهة نظر «بيلار»، حول «التفاعل الاستراتيجي» بين «الجماعات الإرهابية وحركات التمرد والدول»، هي نقطة «حاسمة» في تأجيج بؤر الإرهاب والتطرف. وتوسعت في إيضاح هذه الفكرة؛ قائلة: إننا «نرى ارتفاعًا وانتشارًا لوتيرة الأنشطة الجهادية في «كل بقعة تقريبًا كانت تطأها القوات الأمريكية على مدى العقدين الماضيين. وعلى النقيض من ذلك، اختلفت «كلاوسن»، مع هذه التقييمات والتحليلات، واصفة إياها، بأنها «خاطئة تمامًا». وبدلاً من ذلك، بينت أن الجماعات الجهادية «تخوض حربًا للسيطرة، والتأثير على العقلية المسلمة»، و«ما يسعون إليه هو القيام بنبذ وتدمير كل المصالح والثقافات الغربية»، فيما وصفته بأنها «استراتيجية استنزاف أو إنهاك لقواها».
وتعليقا على التقارير الأخيرة التي تفيد بأن وكالة المخابرات المركزية «سي أي أيه»، «تتراجع» عن «تركيزها السابق على عمليات التحرك على أرض الواقع» لمكافحة الإرهاب؛ دافع «بيلار»، عن هذه الخطوة باعتبارها «الأنسب في الوقت الراهن»، مشيرًا إلى أنه من «المهم» لتلك الوكالة أن تعود إلى «مهامها الأساسية» المتمثلة في «جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية». ومع ذلك، فقد اعترف بأنه كان «قلقًا» بشأن «النتائج المتعلقة بجمع المعلومات الاستخباراتية»، ومدى استغلالها في جهود مكافحة الإرهاب، عقب الانسحاب من أفغانستان، مشيرًا إلى ضرورة أن تكون عمليات مكافحة الإرهاب «القادمة»، وجمع المعلومات تحت رقابة أوثق مما هي عليه الآن.
وفيما يتعلق بموضوع حقوق الإنسان ودوره في عمليات مكافحة الإرهاب الأمريكية المستقبلية، أوضحت «هازلتون»، أن أحد «الأشياء الأكثر إثارة للاهتمام»، التي قامت بها «سي أي أيه»، في السنوات الأخيرة، هو «بناء مليشيات تابعة لها داخل دول أخرى». وبالنظر إلى أفغانستان كمثال، أشارت إلى أن تلك المليشيات «فعالة بشكل خاص في ممارسة العنف»، ولم تلق «أي قبول من جانب الأفغان»، مضيفة أن مسألتي «الغارات والمداهمات العنيفة»، و«استخدام المليشيات»، طرحت «مشكلة خاصة لأمريكا؛ لأنها «لطالما ادعت أنها تريد الالتزام بقيمها التي تتشدق بها».
واستكمالا، أشارت «كلاوسن»، إلى أن هناك «حالة من التخبط والتشوش»، بين «تلبية حقوق الإنسان، وبين جهود مكافحة الإرهاب المشروعة»، كما أن واشنطن، «لم تكن قادرة على إيجاد توازن»، بشأن هاتين المسألتين، بالإضافة إلى ذلك، ذكر «بيلار»، أن هذه المشكلة ليست بالضرورة مسألة صدام بين «حقوق الإنسان، وجهود مكافحة الإرهاب»، ولكنها تتعلق بالأساس «بالمصالح الأمريكية قصيرة الأجل - المتمثلة في الوصول إلى من تعتبرهم واشنطن أشرارًا يستهدفون أمنها - والمصالح طويلة الأجل - المعنية بالحد من الدوافع التي تقود للجوء إلى النشاط الإرهابي- والتي يرى صانعو السياسات ضرورة الموازنة بينهما.
على العموم، قدمت الندوة نظرة ثاقبة حول المشهد الحالي للحركات والمنظمات الجهادية الدولية والاتجاهات الناشئة في دراسات مكافحة الإرهاب. وفيما يتعلق بالتهديد الذي تشكله الجماعات الإرهابية الدولية على الولايات المتحدة، كان هناك انقسام، ففي حين شددت «كلاوسن» على خطورة التطور التنظيمي للتنظيمات الإرهابية، أشارت «هازلتون»، إلى أن هذه الجماعات باتت مهتمة بمحاربة التمردات المحلية للسيطرة على الأراضي في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بينما سلط «بيلار» الضوء على كيف أن مستوى التهديد الذي ستواجهه واشنطن، سيكون متوقفًا على ملامح سياستها الخارجية في المناطق المتضررة من ويلات التطرف والعمل العسكري الذي مارسته.
وعلى الرغم من ذلك، كان هناك اتفاق على أن الهجمات على غرار 11 سبتمبر، أصبحت «غير مرجحة»، وأن الولايات المتحدة تواجه الآن مشكلة تنامي وتيرة الإرهاب والتطرف محليًا، والتي تنبع من المنظمات اليمينية المتطرفة، فضلا عن اتفاقهم على المشاكل المرتبطة باعتمادها على جهات فاعلة إقليمية، والتي قد لا تتماشى مصالحها تمامًا مع الأهداف الأمريكية في مكافحة الإرهاب.