6/1/2022
هل تحتاج العلاقات عبر الأطلسي إلى إعادة ضبط؟
عانت العلاقات الأوروبية الأمريكية من سلسلة انتكاسات خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من رئاسة بايدن، وذلك بعد الوعد المبدئي بأن أمريكا ستعود إلى تعزيز المصالح الأوروبية على الصعيد الدولي. ومع ذلك، أدى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتداعيات اتفاقية أوكوس إلى توتر هذه العلاقات إلى حد كبير في الوقت الذي أكد فيه الجانبان الحاجة إلى تعاون أوثق ونهج متعدد الأطراف لمواجهة التحديات العالمية المشتركة.
ولمناقشة هذا الأمر، عقد معهد بروكينجز، ندوة بعنوان هل تحتاج العلاقات عبر الأطلسي إلى إعادة ضبط؟، أدارها جيمس جولدجير، وسوزان مالوني، من قسم السياسة الخارجية بالمعهد، وشارك فيها ميشال بارانوفسكي، من صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة، وفيونا هيل، الخبيرة السابقة في مجلس الأمن القومي الأمريكي، وكليمان بون، وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، ومارك ليونارد، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وكونستانز ستيلزنمولر، من قسم السياسة الخارجية بالمعهد.
في البداية، أشارت مالوني، إلى أن بايدن، أعرب منذ توليه منصبه عن رغبته في تجديد الالتزام بالعلاقات عبر الأطلسي، لكن انسحاب واشنطن من أفغانستان، واتفاقية دفاع أوكوس، آثارتا أسئلة صعبة حول الطريقة التي تغيرت بها العلاقات الأمريكية الأوروبية في الأشهر الأخيرة، مضيفة أن هذه الخلافات ناجمة عن كونها تحت ضغط التكيف مع واقع أمني جديد.
من جانبه، أشار بارانوفسكي، إلى التوترات الحدودية المستمرة بين بولندا، وبيلاروسيا، كجزء من المنافسة بين الشرق والغرب، بالنظر إلى علاقات وارسو المتوترة مع الاتحاد الأوروبي بخصوص شؤونها السياسية الداخلية، معربا عن أسفه لمثل هذه المعضلات، وخاصة أن هذه القضية أصبحت خطيرة بالنسبة إلى بولندا، متهما رئيس بيلاروسيا، باستخدام محنة المهاجرين كسلاح في جهد منسق مع موسكو لتقويض الأمن الأوروبي.
وحول ما يعنيه تشكيل حكومة ألمانية جديدة للعلاقات عبر الأطلسي، أكدت ستيلزنمولر، أن الحكومة الألمانية لا تزال في مكانها، وأن هناك قدرًا كبيرًا من القلق بشأن الأحداث على الحدود البولندية البيلاروسية، لكن في الوقت الحالي، فإن ألمانيا مهتمة بالنظر إلى الداخل إلى حد ما؛ نظرًا إلى أنها تمر بمرحلة تحول تاريخي سياسي، موضحة أن التفاهمات بين الأحزاب الرئيسية ستستمر في الوقت نفسه الذي ستشتعل فيه القضايا الأخرى، ومن ثمّ، خلصت إلى أن الحكومة الألمانية الجديدة سوف ترث مجموعة من القضايا الصعبة والمعقدة، ومنها الحسابات والتقييمات الخاطئة والتصعيد غير المتعمد.
أما عن أفضل السبل لتعزيز العلاقات عبر الأطلسي وسط السياسات الداخلية المضطربة، لا سيما في الولايات المتحدة، فقد رأت هيل، أنه بالنسبة إلى الحكومات الغربية، فإن السياسة الداخلية والخارجية مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، حيث تشعر هذه الحكومات بقدر كبير من الضغط من أجل الخروج بأجندة محلية مختلفة، وأن المعضلة الأكبر هي كيف نتعامل مع الجبهة المحلية وتحاول الاستمرار في اتخاذ تدابير جماعية كافية دوليا للتعامل مع التحديات العالمية.
واستكمالا لحديثها، أعربت عن مخاوفها من أن أي تقدم سوف يخرج عن مساره بسبب ما ستفعله روسيا بعده، بالنظر إلى أنها تستغل بشكل متعمد الفوضى على حدود الاتحاد الأوروبي، مشبهة الوضع الحالي بالوضع الذي ضمت فيه شبه جزيرة القرم عام 2014. والذي حدث بعد فترة وجيزة من الانتخابات في ألمانيا، وبالتالي كانت الأخيرة خارج الخلاف المتعلق بالشؤون الأوروبية، لذلك، أعربت عن قلقها من أن أوروبا الآن في موقف مماثل مرة أخرى، بالنظر إلى التعليقات غير العادية لقائد القوات المسلحة البريطانية -المنتهية ولايته- نيك كارتر، بأن روسيا على وشك غزو أوكرانيا، وأن بريطانيا يجب أن تكون مستعدة لذلك.
أما عن انشغال الولايات المتحدة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وما يعنيه هذا بالنسبة إلى الشراكة عبر الأطلسي، فقد أشار ليونارد، إلى أن التحالف يمر بوقت صعب للغاية، والذي وصفه بأنه نهاية حقبة، موضحًا أن العلاقات الحالية تعنى بالعمل على شكل الحقبة القادمة، وأن العديد من أطر وهياكل التحالف التاريخي، تتعرض لضغوط هائلة وسط صراع بين الجغرافيا والتاريخ، مع شعور بأن الجغرافيا قد عادت إلى الصدارة في القرن الـ21. مشيرًا إلى أن السمة المميزة لهذه الفترة من تاريخنا تتعلق بالترابط والاعتماد المتبادل بين دول العالم، وأن العديد من سمات هذا الترابط، بما في ذلك التجارة، والتمويل، والبنية التحتية، والإنترنت، والطاقة، والهجرة، يتم تحويلها إلى أسلحة وأدوات للسلطة تسعى البلدان بقوة من خلالها إلى تعزيز مصالحها الخاصة.
وبالنسبة إلى العلاقات عبر الأطلسي في إطار هذا العصر الجديد، وصفها ليونارد، بأنها ضرورية للغاية، وربما أكثر أهمية مما كانت عليه في العقود السابقة، مضيفا أن هناك انفصالا بين الطريقة التي يُنظر بها إلى العلاقات عبر الأطلسي في أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة، وأن دور المصالح الأوروبية في رأي واشنطن على مستوى النخبة، آخذ في الانحدار، باعتبار أن أوروبا تتقلص بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأنها أصبحت أقل أهمية مقارنة بالسنوات السابقة.
وبالمقارنة، لاحظ أن أوساط النخبة في أوروبا يرون أن دولهم لا يزال لديها شعور بالهزيمة الذاتية أمام واشنطن، وهاجس لا يمكنها معه التخلي عن دور الولايات المتحدة، ولا سيما مع تصورات الدول الأوروبية عن نفسها بأنها محتاجة وضعيفة لهذا الدور، وهو ما يؤدي إلى عدم اكتراث بالمخاوف الأمنية الأوروبية من قبل السياسيين الأمريكيين، وفي ضوء هذه الديناميكيات المتعارضة، أوضح أن الجهود المبذولة لإجبار واشنطن وأوروبا على تحالف أوثق ليست دليلا على إمكانية تحقيق نجاح في المستقبل، وتقوم بدرجة كبيرة على الاعتماد السلبي المتبادل، بدلا من الشراكة الحقيقية.
وأوضحت أن الرغبة الراهنة لدى الدول الأوروبية للتراجع وترك التوتر الأمريكي-الروسي على حاله لن تدوم طويلا، نظرًا إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن ترفض المخاوف الأمنية الأوروبية حيال التوغل الروسي في الأراضي الأوكرانية، وذلك ردًا على رفض الدول ذاتها المعارضة الأمريكية لخطوط أنابيب الغاز الروسية نورد ستريم 1 و2 في العمق الأوروبي، وأنه بينما تستخدم روسيا أوروبا كساحة معركة لها، فإن واشنطن حاليًا لم تعد مهتمة بالأمر، ما يعني أن الدول الأوروبية باتت معرضة للخطر بشكل يرثى له.
وفيما يتعلق باستطلاعات الرأي لاحظت ستيلزنمولر، وجود فجوة بين مستوى الآراء العامة وآراء صانعي القرار، مؤكدة أنها أقل انزعاجًا من مخاوف تحول التحالف عبر الأطلسي إلى تحالف يستند فحسب إلى قضية معاملات بين أعضائه، بمعنى أنه بدا واضحًا أن الدول الأوروبية لديها شكوك إزاء إرادة الولايات المتحدة للدفاع عنها في حال تعرضها لاعتداء إذا لم تدفع بشكل كاف. لكن مع ذلك، فقد أعربت عن قلقها بشأن حالة السبات التي تعتري الدول الغربية بشأن خطورة وقوع مواجهة عسكرية لا يحمد عقباها على الحدود البيلاروسية البولندية.
وتعقيبا على ذلك، صرح بارانوفسكي، أن هناك افتراضًا بأن موسكو تقف وراء الاشتباكات الواقعة على الحدود البولندية-البيلاروسية، وأن حجم النفوذ الروسي قد يمتد من منطقة القطب الشمالي إلى البحر الأبيض المتوسط بواقع تأثيره وسيطرته على مجالات الطاقة والفضاء السيبراني على حد سواء، وأنه ربما يكون هناك مساحة لتصعيد التوتر الراهن بين موسكو ودول أوروبا الشرقية، وخاصة إذا حدث السيناريو الأسوأ وهو تورط الولايات المتحدة في التطورات الكائنة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تاركة للروس حرية التحرك والهيمنة على المواقف.
وعندما سُئل ليونارد، كيف يمكن لإدارة بايدن والاتحاد الأوروبي إعادة بناء العلاقات بشكل قوي، أوضح أنه لا يمكننا بناء علاقة تحالف بين قادة دول فحسب، ولا سيما أنه لا يمكنهم إنقاذ العلاقة حال توترها، لكون الأمر منوطا بمدى تماسك هيكل هذا التحالف والقيم المشتركة بين أعضائه. ومع ذلك، أقر بأن الدول الغربية لا يمكنها تغيير حقيقة أن القوة باتت تتغير في القرن الحادي والعشرين وأصبحت تدرك أن محاولة بناء علاقة أشبه بالحرب الباردة لن تنجح أيضًا. لذلك، فإن التحالف سيحتاج في المستقبل إلى شبكة علاقات أوسع نطاقًا بكثير مع البلدان الأخرى.
وفيما يتعلق بالدول التي يمكن الاعتماد عليها لحماية التحالف وعلاقاته التاريخية؛ أوضحت ستيلزنمولر، أن ألمانيا قادت توافقًا في الآراء بشأن ضرورة فرض مزيد من العقوبات ضد الروس؛ بسبب تدخلاتها في الشأن الأوروبي مقابل معارضة مستميتة من كل من مدريد وروما وباريس، وأن كلا من لوكاشينكو وبوتين معرضان لخطر الوقوع في مزيد من الأخطاء إذا بدآ في زيادة التوترات في أوكرانيا أو تهديد بعض دول أوروبا الشرقية، الأعضاء في حلف الناتو.
أما عن مدى التوافق الحزبي الأمريكي الديمقراطي والجمهوري، بشأن السياسة الخارجية الأوروبية، فقد أوضح بارانوفسكي، أن لهجة الخطاب بين واشنطن والدول الأوروبية أصبحت أكثر حزبية، ويرجع ذلك جزئيا إلى الاختلافات المتزايدة بين سياساتنا، وانخفاض مستوى الديمقراطية في الجزء الخاص بنا كدول أوروبية، مشيرًا إلى أن قوة العلاقات بين القادة قد يكون لها رأي آخر، مؤكدا أن الولايات المتحدة لم تضع بعد سياسة واضحة لكيفية التعامل مع الدول ذات الثقل من الناحية الاستراتيجية، ولكنها لا تفي بقيم والتزامات التحالف على نحو متزايد.
وحول التوتر المتعلق باتفاقية أوكوس والدروس التي يمكن أن يستخلصها الأوروبيون من هذه الأزمة، أشار بون إلى وجود تحديات كبرى في أعقاب ذلك، خاصة فيما يتعلق بالثقة بين باريس وواشنطن، مؤكدا أن هذه التطورات عززت المصالح الفرنسية عبر تحمل المزيد من المسؤولية حيال ضرورة معالجة المخاوف الأمنية الأوروبية، مؤكدا أن الدول الأوروبية يجب أن تكون لاعبًا مؤثرًا في شؤون الأمن والدفاع على الصعيد الدولي، مشيرًا إلى سعي فرنسا إلى بذل مستويات أكبر من الاستثمار في مشروعات التنمية والصناعات الدفاعية. ومع ذلك، كان حريصًا على تأكيد أن مثل هذه النقاط لن تكون على حساب التقليل من شأن التحالف عبر الأطلسي الحالي، أو النيل من التزامات فرنسا إزاء حلف الناتو.
على العموم، قدمت الندوة قدرًا كبيرا من التحليل والتعليق على التحديات التي تواجه التحالف عبر الأطلسي، بالمعنى الدبلوماسي العملي والنظري، مع الاعتراف بأن الإخفاقات التي انتابت التحالف هي نتيجة لكونه يضم علاقات قديمة مبنية على عقلية الحرب الباردة التي لم تعد ملائمة حاليًا، فضلا عن معالجتها نقاط اهتمام مختلفة، سواء كانت ألمانية أو بريطانية أو أمريكية أو بولندية، وتقديم توصيات بشأن ما هو مطلوب لإعادة ضبط التحالف والاعتماد عليه مستقبلا.