19/1/2022
محادثات فيينا.. بين الضغط الإسرائيلي والصبر الأمريكي
يترقب العالم بشغف أن تسفر محادثات فيينا القائمة حاليًا، بشأن إحياء الاتفاق النووي مع إيران، عن انفراجة قريبة لأكثر من سبب، لعل أولها نزع فتيل حرب محتملة، لا يعلم أحد مداها وحجم الخسائر التي يمكن أن تنجم عنها، كما أن خروج صادرات إيران من النفط والغاز الطبيعي إلى السوق الدولي من شأنه تهدئة الارتفاعات الأخيرة التي شهدتها أسعار الطاقة، فضلا عن أن عودتها إلى السلوك الطبيعي غير المهدد لجيرانها من شأنه أن ينعش العلاقات المتعددة على جانبي الخليج، ويحقق مصالح مختلفة للدول المشاطئة له.
ومنذ 3 يناير 2022، استؤنفت المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في جولتها الثامنة، بعد أن أخفقت الجولة السابعة، كسابقتها من جولات في إنقاذ الاتفاق النووي المبرم في 2015، وسط قلق غربي من استمرار طهران في أنشطتها النووية، ومساع نحو اتفاق مؤقت يهدئ مخاوف الجانبين ولو جزئيًا. وبحسب تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان, فإن خطورة الوضع تتمثل في أن إيران وصلت إلى المرحلة قبل الأخيرة على صعيد تخصيب اليورانيوم بنسبة 90%، والحصول على القدرة النووية، فيما تسير محادثات فيينا بشكل شديد البطء، ما يهدد إمكانية التوصل إلى اتفاق في إطار زمني واقعي. ووفقا لما نشرته مجلة فورين بوليسي, عن مسؤول أمريكي، فإن بعض التقدم الذي حققته المفاوضات ليس كافيًا حتى تتحول إلى محادثات مفتوحة من دون تواريخ أو آجال محددة، كما أنه إذا استمر هذا التباطؤ، فقد تعيد واشنطن النظر في أهمية الاتفاق النووي تمامًا.
وحتى لا تتهم إيران بأنها السبب في تباطؤ محادثات فيينا، وتخسر مؤيدين لها؛ فإن رئيس لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإيراني وحيد زادة, في تصريحات له، صرح لدى بدء الجولة الثامنة بإمكانية قبول بلاده فكرة الاتفاق المؤقت, التي أثيرت في المحادثات أكثر من مرة، إن لم يكن هناك بديل عنه، وإن كانت إيران تتطلع إلى اتفاق دائم. وفي حين قد يُنظر إلى هذا التصريح على أنه تراجع في الموقف الإيراني؛ فإن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد زادة, أكد أن طهران لا تريد اتفاقًا مؤقتًا، وتطالب باتفاق شامل وضمانات. وتزيد هذه التصريحات المتناقضة بين المسؤولين الإيرانيين من تعقيد الموقف، وتعطي انطباعًا أنها تسعى لكسب الوقت حتى تفاجئ العالم بامتلاكها للسلاح النووي.
وبينما تتمسك الولايات المتحدة بالصبر حتى يمكنها -مع ضغط الحلفاء والأصدقاء، وضغط الداخل الإيراني- أن تصل إلى اتفاق ينزع الطابع العسكري من البرنامج النووي الإيراني، وعدم ربط هذا البرنامج ببرنامج الصواريخ الباليستية، وكبح سلوك طهران المزعزع لاستقرار المنطقة؛ فإن إسرائيل لا ترى في هذه المحادثات أي أمل، وأنه لا بديل عن الخيار العسكري، الذي يجهض البرنامج النووي الإيراني من أساسه، وخاصة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت, اعتبر أن بلاده لن تكون ملزمة بأي اتفاق نووي مع إيران، وأنها ستستمر في الاحتفاظ بحرية التصرف ضد أعدائها إذا لزم الأمر، وأنها ليست طرفًا في الاتفاقات إذا ما تم التوقيع عليها, بل إنها طالبت القوى العالمية بالإبقاء على خيار عسكري له مصداقيته في مواجهة إيران أثناء السعي للتوصل إلى اتفاق. ويعزز الضغط الإسرائيلي الحجج التالية:
- أن إيران التي أنفقت عشرات المليارات من الدولارات على برامجها النووية والصاروخية لن تقبل بالتخلي عنها تمامًا.
- بالنظر إلى دور الأسلحة النووية في الردع، وأهميتها في السياسة الكلية للحكومة الإيرانية، فمن غير المتوقع أن توقف إيران برنامجها النووي.
- حصولها على تنازلات من الغموض الذي تحيط به برنامجها النووي، فقد أعطت الولايات المتحدة الصين الضوء الأخضر لاستيراد مزيد من النفط الإيراني، وشجعها ذلك على زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم في الوقت نفسه، الذي تبدي فيه استعدادها للتفاوض.
- قد تعلق إيران بشكل مؤقت مزيدا من التخصيب وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، وتقبل توسيع دور وكالة الطاقة الذرية في التفتيش على منشآتها النووية خلال اتفاق قصير الأجل ومحدود، في مقابل رفع بعض العقوبات، من دون أن يعني ذلك تخليها عن برنامجها النووي، وهي تأخذ في الاعتبار ما قام به ترامب من انسحاب من الاتفاق النووي في 2018.
- ما يعزز حقيقة أن إيران تسعى لكسب الوقت في محادثات فيينا أنه في كل جولة تتقدم بطلبات جديدة. وقبل أن تنتهي مفاوضات الجولة السابعة دون اتفاق كما حدث في الجولات السابقة، حذر بيان صادر عن دبلوماسيين أوروبيين أنه حتى الآن لم نتمكن من الخوض في مفاوضات جادة مع إيران، وإننا نضيع وقتًا ثمينًا في التعامل مع مواقفها الجديدة التي تتعارض مع خطة العمل الشاملة المشتركة أو تتجاوزها, مضيفا أن الوقت ينفد من دون إحراز تقدم سريع، بينما يحدث تقدم سريع في برنامجها النووي، حتى إن الاتفاق النووي سيصبح في وقت قريب بدون قيمة.
وفيما يعد تلويحًا بقبول وجهة النظر الإسرائيلية، فبعد أن انتهت جولة المفاوضات النووية السابعة من دون التوصل إلى تقدم يحيي الاتفاق النووي المبرم عام 2015، أو يكبح طموح إيران؛ حذرت الولايات المتحدة أنها تستعد لعالم لا عودة فيه إلى الاتفاق النووي الإيراني بعد مفاوضات مخيبة للآمال. ووفق تصريح وزير الخارجية الأمريكية لصحيفة واشنطن بوست, فإن طهران لم تظهر كبلد يفكر جديًا في عودة سريعة لخطة العمل الشاملة المشتركة، التي تستهدف منعها من حيازة سلاح نووي.
ومنذ تعليق إيران المحادثات في يونيو 2021، واستمرارها في تسريع وتيرة برنامجها النووي بشكل استفزازي؛ أظهرت الولايات المتحدة صبرًا كبيرًا خلال هذه الأشهر، واتهمت طهران بالسعي للحصول على تنازلات غير مقبولة تتجاوز نطاق الاتفاق الأصلي، فضلا عن تقديمها اقتراحات تشكل تراجعًا عن كل التسويات التي طرحتها في الفترة من أبريل إلى يونيو؛ بهدف الاستفادة من كل التسويات التي طرحها الآخرون، وخاصة الولايات المتحدة، وأكدت إدارة بايدن أنها -إلى جانب شركائها الأوروبيين- لديها أدوات لاستخدامها إذا رفضت إيران الامتثال للاتفاق. وتشمل هذه الأدوات عقوبات أمريكية إضافية، وإعادة فرض العقوبات الدولية التي تم رفعها، وأنه إذا كانت الدبلوماسية هي الطريق الأنسب لواشنطن، في الوقت الحالي، فإن لديها أدوات أخرى يمكن أن تلجأ إليها.
وبين التوجه الإسرائيلي لإجراء عسكري يجهض البرنامج النووي الإيراني، والصبر الأمريكي وصولاً إلى اتفاق جديد مع إيران، أو إحياء القديم؛ حدثت خلافات بين الدولتين الحليفتين. وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن هذه الخلافات تحولت إلى توترات جديدة بين إدارة بايدن وإسرائيل. وفي ديسمبر الماضي، بعد لقاء في واشنطن بين الجانبين، لم يخف الجانب الإسرائيلي مخاوفه من أن الالتزام الأمريكي باستعادة الاتفاق النووي لعام 2015 سيؤدي إلى اتفاق معيب يسمح لطهران بالمضي قدمًا في برنامجها لتخصيب اليورانيوم. وفي محاولة لتقريب وجهات النظر، كان بايدن قد طلب من مستشاره للأمن القومي مراجعة خطة البنتاجون المعدلة لاتخاذ إجراء عسكري إذا انهارت الجهود الدبلوماسية.
وفي ديسمبر 2021، بعد مكالمة هاتفية متوترة مع وزير الخارجية الأمريكي بلينكن, أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت وزير الدفاع بيني غانتز, ورئيس الموساد ديفيد بارنيا, إلى واشنطن، ومعهم معلومات استخباراتية بشأن تخصيب اليورانيوم الإيراني، لكن المسؤولين الإسرائيليين عادوا قلقين من إعلان واشنطن استمرار التواصل الدبلوماسي؛ أي مزيدا من الصبر الأمريكي. واختلف الجانبان حول قيام إسرائيل بتخريب المنشآت النووية الإيرانية، حيث رأى الأمريكيون أن هذا يدفع طهران إلى إقامة منشآت أكثر تطورًا، غير أن هذا لم يمنع إسرائيل من استشارة الولايات المتحدة قبل شن غارتين سريتين على إيران، الأولى في يونيو على منشأة لتطوير أجهزة طرد مركزي، والأخرى في سبتمبر على قاعدة صاروخية. واستشعر المسؤولون الإسرائيليون القلق من أن تصل الولايات المتحدة في النهاية إلى اتفاق مع طهران، وبالتالي منعهم من شنّ هجمات تخريبية سرية مجددًا.
ولوضع الأمور في سياقها، ولأن الولايات المتحدة تعتبر حليف إسرائيل الرئيسي الضامن لوجودها، وبالنظر إلى قوة تأثيرها في صناعة القرار الأمريكي؛ فقد حذر مستشار الأمن القومي الأمريكي، في آخر ديسمبر 2021، من نفاد صبر الدبلوماسية النووية مع إيران, ومن أن الولايات المتحدة وشركاءها يبحثون أطرا زمنية لهذه الدبلوماسية، وخاصة أن الجهود الحالية للتوصل إلى اتفاق نووي ربما تستنفد خلال أسابيع.
وكانت هذه التصريحات خلال زيارته لإسرائيل، حيث ناقش مع نظيره الإسرائيلي، المخاوف بشأن برنامج إيران النووي، ونشاطها في الشرق الأوسط، وصرح المسؤول الأمريكي بأن الجانبين قد اتفقا على أن إحراز إيران لتقدم سريع في برنامجها النووي يشكل تهديدا جسيما للمنطقة والأمن والسلم الدوليين.
وحتى لا تتخذ إيران من الموقف الإسرائيلي ذريعة للمضي في برنامجها النووي، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت صرح، في حديثه لإذاعة الجيش الإسرائيلي في 28 ديسمبر 2021، بأن بلاده لن تعارض تلقائيًا أي اتفاق تتوصل إليه القوى الدولية مع إيران، وأنها تتخذ نهجًا عمليًا على عكس الآخرين، ولا تسعى من أجل القتال، وأن احتمال التوصل إلى اتفاق يناسب مصالحها هو احتمال ضعيف. يأتي هذا فيما جددت واشنطن التزامها بأمن إسرائيل في مواجهة نووي إيران، وأنها عازمة على مواجهة كل جوانب التهديد، الذي تشكله إيران على السلم والأمن إقليميًا ودوليًا، وتعهدها بعدم تمكينها من امتلاك سلاح نووي.
على العموم، يبقى التساؤل قائما: هل تنجح الجولة الثامنة من محادثات فيينا فيما أخفقت فيه الجولات السابقة، وتعيد إحياء الاتفاق النووي؟ أم تستمر إيران في سياسة كسب الوقت حتى تفاجئ العالم بأنها قد امتلكت السلاح النووي؟.. يبدو أن المقدمات تعزز سياسة حافة الهوية التي تتبعها إيران، فقد بدأت الجولة برفض وضع جدول زمني للمفاوضات، بينما واشنطن والأوروبيون يرون أن الوقت المتاح لإبرام الاتفاق قد بات أسابيع وليس شهورًا, وقد يصبح الخيار المؤكد هو عدم الاتفاق، وخاصة مع تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإيرانية، لدى استئناف الجولة الثامنة، أن كل المطالب التي تقع خارج إطار الاتفاق النووي غير مقبولة، وأنه على واشنطن وضع برامج وجداول زمنية لرفع العقوبات عن بلاده، في الوقت نفسه الذي ألمح فيه دبلوماسيون أوروبيون إلى أن هذه الجولة الثامنة هي الأخيرة.