top of page

9/2/2022

المنافسة الاستراتيجية بين أمريكا وروسيا والصين

في السياق الأوسع لمنافسة الولايات المتحدة والصين وروسيا على الصعيد العالمي، برز وضع الشرق الأوسط، كمسرح للتنافس الحالي والمستقبلي بين القوى الثلاث، في ظل وجود إجماع على أن دور «واشنطن»، طويل الأمد كضامن للأمن في المنطقة يواجه تحديات من القوتين الأخريين، اللتين عززتا ارتباطاتهما الاقتصادية والأمنية والسياسية في المنطقة خلال العقد الماضي. وباقتران هذا مع توقعات بأن الإدارة الأمريكية ستقلل من تدخلاتها المباشرة في المنطقة من أجل التركيز على مخاوف أمنية أخرى، ظهرت العديد من الأسئلة حول مستقبل الشرق الأوسط ودور القوى الثلاث العظمي.

 

وبهذا الصدد، أصدرت مؤسسة «راند»، تقريرًا، بعنوان «مفترق طرق المنافسة.. الصين وروسيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، أعده كل من «بيكا واسر»، و«هوارد شاتز»، و«أندرو سكوبل»؛ بهدف مناقشة أطر المنافسة بين الجهات الفاعلة الخارجية في المنطقة، إلى جانب وضع توصيات بشأن ما يمكن فعله لحماية المصالح الأمريكية.

 

ويتمحور التوجه الغربي العام بشأن التفاعلات بين الولايات المتحدة والصين وروسيا في الشرق الأوسط، حول مفهوم «المنافسة الاستراتيجية»، وهو مصطلح ظهر بشكل مكثف في وثائق استراتيجية الأمن القومي الأمريكية «إن إس إس»، الصادرة عامي 2017 و2018. ويشمل هذا المفهوم، إدراك «تزايد المنافسات السياسية والاقتصادية والعسكرية» عالميًا بين واشنطن وخصومها الأقوى. وأشار التقرير إلى أن روسيا والصين هما «موضع تركيز السياسة الأمنية للولايات المتحدة». وحول هذه النقطة، أوضح أن كلا الدولتين كانا ولا يزالان يُعتبران «تحديات من الدرجة الأولى، لكن مع ذلك «تظهر الصين بشكل أكبر في اعتبارات مقرري السياسة». ومن وجهة نظر مؤيدة، ذكر تقرير لمركز «ويلسون»، أن الدول الثلاث بصدد «إعادة تحديد أدوارها في المنطقة».

 

وفي إيجاز للمواقف المختلفة لروسيا والصين تجاه المنطقة، أشار تقرير «راند»، إلى أن الصين «أقامت شراكات اقتصادية في مجالات التكنولوجيا وتجارة الطاقة، والبنى التحتية والموانئ»، في حين «حاولت روسيا أن تموضع نفسها كوسيط ومزود أسلحة بديل للولايات المتحدة». ويعكس هذا الأمر «تشابك» المصالح الحالية لكل من موسكو وبكين في المنطقة، وهو الأمر الذي أدى إلى سعي كل منهما إلى تحقيق «أهدافهما الأساسية، والهدف الثانوي المتمثل في تقويض نفوذ واشنطن، من دون إثارة خلافات في علاقتهما الثنائية».

 

وحول دور الصين ونظرتها إلى «المنافسة الاستراتيجية»، أوضح التقرير، أن بكين تعتبر نفسها في «منافسة دائمة مع القوى العظمى الأخرى». وبالنسبة لعلاقاتها مع دول الشرق الأوسط، فإن الأخيرة «ترحب بهذه العلاقات»، مشيرا إلى استفادة بكين من مبادرة «الحزام والطريق»، في بناء شراكات اقتصادية، وأن هذه العلاقات منحتها «قدرًا ضئيلًا» من النفوذ السياسي في المنطقة، لا سيما على الدول الأفقر». وتمت الإشارة أيضًا إلى حقيقة أن المصالح العامة لها، مماثلة لمصالح الولايات المتحدة، حيث تتمثل «مصالحها الأساسية الثلاثة؛ في تأمين «الوصول إلى النفط والغاز»، و«الحد من عدم الاستقرار واحتمالية الإرهاب داخل حدودها»، و«الرغبة في العمل كضامن للاستقرار متى أمكن ذلك».

 

وبالإشارة إلى الأهمية المتزايدة للصين في المنطقة في ضوء انسحاب أمريكا منها؛ كتب «بن هوبارد»، و«إيمي تشين»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه «في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن -المنهكة من عقود من الحروب والاضطرابات في الشرق الأوسط- إلى الحد من مشاركتها؛ بدأت بكين في تعميق علاقاتها مع أصدقاء وأعداء واشنطن على حد سواء»، ورغم إشارتهما إلى أنها بعيدة عن منافسة الولايات المتحدة، إلا أنهما يريان أن توجهها للاستثمار في الشرق الأوسط، يمكن أن يتسارع مع انسحاب الولايات المتحدة من المشاركة في شؤون المنطقة.

 

وأشار التقرير إلى أن الصين ليست فقط «غير راغبة»، أن تحل محل الولايات المتحدة، ولكن أيضا لا يوجد بديل لواشنطن بعدها، وإن كانت «لا تسعى إلى لعب دور رئيسي في الشؤون الأمنية بالمنطقة، كما سلط الضوء أيضًا على بعض القيود الحالية على النفوذ الصيني، بما في ذلك ما اعترى دول الخليج من شعور بالإحباط بسبب عدم قدرتها أو رغبتها في التخفيف، من «سلوك إيران العدائي»، ودعمها غير المرحب به لـ«رجال أقوياء» في ليبيا وسوريا.

 

واستكمالًا، أوضح أن لدى روسيا والصين تحديات مختلفة عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وفي حين لوحظ أن تجارة السلع الصينية مع المنطقة خلال الفترة (2009-2019)، بلغ متوسطها سبعة أضعاف مثيلتها الروسية، وأن صادرات بكين كانت أكثر من أربعة أضعاف صادرات موسكو خلال الفترة نفسها، فقد أشار إلى كيف أنه كانت روسيا «أكثر نشاطًا بكثير في المجال العسكري»، وأنه خلال العقد الماضي، تفوقت مبيعات أسلحتها على مبيعات الصين، بنسبة 12 إلى 1. وبالانتقال إلى روسيا، أشار إلى أنه بعد «غيابها الكبير»، عن المنطقة في العقود التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، فقد أتاحت لها الحرب الأهلية السورية، فرصة «لإعادة فرض» نفسها، باعتبارها «فاعلا رئيسيا في المنطقة»، وهو ما توافق مع رؤية مركز «ويلسون»، من أن الصراع السوري كان «بوابة روسيا للعودة» إلى المنطقة.

 

وعلى مستوى أوسع، أوضح التقرير كيف يمكن وصف الدبلوماسية الروسية الحالية في الشرق الأوسط من خلال «توطيد تعاونها مع شركائها القدامى في سوريا وإيران». وكما وجد مركز «ويلسون»، فإنها «تشعر بالراحة أكثر في العمل مع الأطراف المتعارضة داخل نزاع معين». وأوضحت «ديانا جاليفا»، من «جامعة أكسفورد»، أنها لا تزال منفتحة على «مسارات التعاون» المختلفة في الشرق الأوسط، بما في ذلك من خلال الاستثمار والتنمية، وكذلك من خلال عضويتها في تحالف «أوبك بلس». وكما هو الحال مع حالة الاهتمام الصيني المتزايد بالشرق الأوسط، اقترحت «مؤسسة راند»، أن «انخراط روسيا المتجدد في المنطقة قد تم «تسهيله» من خلال التصورات الإقليمية، بأن الولايات المتحدة تنسحب منها. وعلى وجه الخصوص، تحاول موسكو تقديم نفسها كبديل لواشنطن، و«ملء الفراغات» التي خلفتها.

 

وفي هذا الصدد، أوضح «دومينيك دادلي»، من مجلة «فوربس»، كيف أن «الصعوبات» التي واجهتها دول الخليج في تأمين عقود أسلحة من كل من الولايات المتحدة وأوروبا قد وفرت لهم «حافزًا للبحث عن موردين محتملين بديلين»، مما أدى إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع موسكو. وفي مواجهة مثل هذا الطرح، علق «أنطون مارداسوف»، من «معهد الشرق الأوسط»، على أن النجاح الروسي بشأن صناعات الدفاع في الشرق الأوسط، قد استقر مع تضاؤل الاهتمام بالأسلحة الروسية الصنع عقب حل الأزمة الخليجية عام 2021، فضلاً عن تأثير العقوبات الأمريكية الرامية إلى كبح مبيعات الأسلحة من روسيا. وعليه، اعتبر التقرير أن روسيا لا تسعى إلى «إزاحة أو استبدال» الولايات المتحدة بصفتها الضامن الأمني «الأساسي للمنطقة». وتوقعت «آنا بورشفسكايا»، من «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، أنها ستكون «حذرة من التوسع المفرط وستواصل اتباع استراتيجية ذات وسائل محدودة». وتماشيا مع ذلك، افترض تقرير «ويلسون»، أن مشاركتها في الشرق الأوسط «مبالغ فيه حاليًا».

 

وبشكل خاص، تعد هذه المخاوف ملحة في المناخ الحالي للتوترات المتصاعدة بين الغرب وروسيا، بشأن أوكرانيا، حيث لا يمكن استبعاد تداعياتها على أمن الشرق الأوسط، إذا اندلع صراع في أوروبا الشرقية. وأوصى «ماكس بيرجمان»، من «مركز أمريكان بروجرس»، أن على واشنطن «الانخراط في جهد دبلوماسي عالمي لعزل روسيا»، بما في ذلك «جهد منسق» للقيام بذلك مع مصر وحلفائها الخليجيين، فضلا عن أن هناك عنصرا آخر يجب مراعاته، وهو الدرجة التي يكون عندها بكين وموسكو -رغم عدم وجود حلفاء رسميين لهما بالمنطقة- مصلحة مشتركة في الحد من انتشار الولايات المتحدة العالمي من خلال التعاون في الجهود المبذولة لإضعاف الهيمنة الأمريكية في مجالات معينة، مثل الاقتصاد وانتشار الأسلحة. وأشار «كولم كوين»، في مجلة «فورين بوليسي»، إلى أنه «ليس هناك شك في أن العلاقة بين البلدين قد نمت بشكل أوثق في السنوات الأخيرة»، وشرحت «كادري ليك»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، كيف يتجاوز الجانبان خلافاتهما من أجل مصالح جيوسياسية «براغماتية» أوسع، معنية بالإضرار بواشنطن».

 

وحول الدور الذي تلعبه واشنطن في «المنافسة الاستراتيجية» الراهنة، أوضح أنه «من أجل فهم أفضل لسبب ظهور الشرق الأوسط كمحور للمنافسة بين الأطراف الثلاثة، من الضروري فهم أن المصالح الأمريكية الجوهرية، تتركز حول «ضمان استمرار الاستقرار الإقليمي»، و«الحفاظ على انسيابية الوصول إلى الإمدادات النفطية، و«ضمان التدفق الحر لهذه الموارد إلى باقي دول العالم»، و«حماية الكثير من الحلفاء والشركاء»، فضلاً عن «الدفاع عن قواتها في المنطقة»، مشيرا إلى أنه على الرغم من أن المنطقة لم توفر سوى أقل من 8% من احتياجات استهلاك النفط الأمريكي في عام 2018، فقد لوحظ أن الولايات المتحدة «لا تزال تسعى إلى حماية تدفقات الطاقة الضرورية للاقتصاد العالمي».

 

وفي الواقع، حاول تقرير «راند»، تزويد صانعي السياسة الأمريكيين بمبادئ تساعدهم على خوض هذا التنافس بصورة أفضل، والعمل على» حماية مصالح واشنطن. ومع وضع هذا في الاعتبار، قدم العديد من التوصيات لإدارة هذه الحقبة من المنافسة في المنطقة. ومع إدراك أنها ستحتاج إلى «خوض هذا التنافس بفاعلية» مع منافسيها، أكد معدو التقرير أن الولايات المتحدة هي الأفضل لتعزيز دورها كوسيط إقليمي في تسوية العديد من النزاعات، وأنها الأجدر على استخدام هذا الدور لتعزيز علاقاتها التجارية وتعاونها مع دول الشرق الأوسط.

 

من ناحية أخرى، يجب مراعاة وتقييم موقف دول الشرق الأوسط عند مناقشة قضية المنافسة الاستراتيجية بين القوى العظمى. وأشار التقرير إلى أن المنافسة «لا تحدث من فراغ»، لكون أن دول المنطقة لديها «مصالحها وأهدافها»، التي يتعين تحقيقها عند التعاون مع أي من القوى الخارجية الثلاث. وتمت الإشارة إلى أنه على الرغم من تأثير هؤلاء الثلاثة، فإن دول المنطقة، تحتفظ «برأيها إما في تلقي المساعدة، بشأن أهدافها أو رفضها وتقييدها»، بناء على التداعيات التي قد تطال التأثير والنفوذ الإقليمي لها.

 

وفيما يتعلق بدول المنطقة على وجه التحديد التي من المرجح أن تكون مناطق رئيسية للتنافس على النفوذ السياسي والاقتصادي في المستقبل القريب، تمت الإشارة إلى أن دول الخليج، وكذلك مصر وسوريا وتركيا، ستكون محور هذه المنافسة الإقليمية. وأشارت «بورشفسكايا» إلى أن دولًا، مثل «تركيا ومصر والإمارات والسعودية»، وسعت «علاقاتها العسكرية» مع روسيا، في حين اتسم الالتزام الأمني المعهود عن الولايات المتحدة تجاه دول المنطقة بـ«التناقض».

 

ومع ذلك، فإن دول الخليج، وكذلك دول المنطقة بشكل عام، لا تريد المشاركة في زيادة حدة المنافسات الجيوسياسية الأوسع بين القوى العظمى. وبالإشارة إلى محادثات قطر الأخيرة مع واشنطن حول صادرات الطاقة المحتملة إلى أوروبا، حذر «سايمون هندرسون»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، من أنه «يجب على الدوحة التعامل مع موسكو بحذر، إذا اختارت مساعدة إدارة بايدن، «وخلق نوع من التنافس» مع روسيا على «عقود توريد الغاز».

 

على العموم، توقع تقرير «راند»، مستويات متزايدة من المنافسة بين القوى الثلاث في الشرق الأوسط، خلال السنوات القادمة، خاصة الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية والعسكرية. وفي الوقت الحالي، هناك مخاوف حول تصور أن الأنشطة الصينية والروسية في المنطقة تقوض المصالح الأساسية لواشنطن. وإن نجحتا حتى الآن في تجنب المنافسة المباشرة مع بعضهما في المنطقة، لكن لا زالت هناك مخاوف من تقويض النفوذ الأمريكي من خلال تعاون مزدوج من خصمين قويين. ومع ذلك، تم التأكيد أن الأخيرة لا تزال تحتفظ بأقوى هيمنة دبلوماسية، وأن شبكتها من الحلفاء الإقليميين لا مثيل لها بالمقارنة مع غيرها من القوى الأخرى، وتم تسليط الضوء على أنها لا تزال قادرة على لعب دور بناء ومؤثر كقوة عظمى، حتى لو استمر تواجدها العسكري بالمنطقة في التقلص التدريجي.

{ انتهى  }
bottom of page