10/2/2022
مشهد الطاقة في ظل الأزمة الروسية الغربية
من المعلوم أن نسبة الغاز في مزيج الطاقة الأوروبي تبلغ نحو 22%، يأتي ثلثها من روسيا التي تمتلك في حقول سيبيريا أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، والتي بدأت تصديره إلى بولندا، منذ أربعينيات القرن الماضي، وفي الستينيات أمدت به دول الاتحاد السوفيتي عبر خطوط أنابيب، وبعد تفكك الأخير تكرر النزاع بين روسيا وأوكرانيا، التي تعبرها هذه الخطوط، فضلا عن تكرار الخلاف بين روسيا والدول الأوروبية حول تسعيره، مثلما حدث عامي «2006 و2008»، حين توقفت إمداداته، بسبب هذه الخلافات، ما ترتب عليه من قيام دول البلقان، وسلوفاكيا، بتقنين الغاز وإغلاق المصانع. ومنذ ذلك الوقت، بدأت الدول الأكثر انكشافًا تتجه إلى بدائل، مثل بناء محطات لاستقبال الغاز المسال الذي يمكن استيراده من حقول بديلة كالحقول القطرية.
ورغم ذلك، واصلت الدول الأوروبية شراء الغاز من روسيا بكميات كبيرة، بعد أن نجحت دبلوماسية الأخيرة في إقناعها بفصل الخلافات السياسية عن مشهد الطاقة. ومع تصدر ألمانيا قائمة المشترين لهذا الغاز، توجهت روسيا إلى إنشاء خط أنابيب جديد هو (نورد استريم2)، لتزويدها به، ما أثار قلقا متزايدا لدى الولايات المتحدة، خشية أن يؤدي ذلك إلى امتلاك موسكو ورقة ضغط بالغة التأثير في الشأن الأوروبي. وفي عام 2017، اشترت أوروبا من شركة «غاز بروم» الروسية ما قيمته 38 مليار دولار، وكان وراء ذلك تعويض استنزاف الحقول البريطانية والهولندية. وفي عام 2018، بدأ العمل في مشروع (نورد ستريم2)، تحت بحر البلطيق، بإشراف شركة «غاز بروم»، وبتمويل جزئي من شركات الطاقة الأوروبية، مثل الشركات «الروسية، والفرنسية، والنمساوية، والهولندية، والبريطانية، والألمانية».
ومن جانبها، عارضت إدارة ترامب هذا الاتجاه، وفرضت في ديسمبر 2019 عقوبات على الشركات العاملة في المشروع مدة عام. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك، إلى أن الوضع الجديد يقوي من قبضة موسكو ويجعل الدول المستوردة تحت رحمتها، كما أنه يحرم أوكرانيا من رسوم المرور السخية، التي تحصل عليها نتيجة مرور الغاز الروسي عبرها إلى أوروبا. ورغم تهديد ألمانيا بعدم الاستمرار في مشروع (نورد ستريم2)، إذا ما استخدمته روسيا وسيلة لعزل أوكرانيا وتدمير اقتصادها، وأنها ستتجه إلى تنويع مصادر طاقتها والاعتماد على مصادر أخرى؛ إلا أن ذلك لم يكن سهلا عليها، كما أنه ليس سهلاً على الدول الأوروبية أن تتخذ موقفًا موحدًا بسبب تفاوت اعتمادها على الغاز الروسي، خاصة بعد أن قررت ألمانيا وقف اعتمادها على الطاقة النووية، والموقف البيئي من استخدام الفحم، وارتفاع أسعار الغاز المسال، والاعتراض على تقنية التكسير الهيدروليكي، بسبب اتهام هذه الطريقة بأنها تلوث المياه الجوفية وتسبب الزلازل.
ومع ذلك، فإن الوضع السياسي للغاز الروسي واحتمال استخدامه كورقة ضغط، جعل المستشارة الألمانية «ميركل»، تشير إلى توجه أوروبا بشكل جاد، نحو تنويع مصادر طاقتها والتحرر من الاعتماد على هذا الغاز، وهو ما صرحت به في أغسطس 2021، خلال مؤتمر صحفي لدى استقبالها الرئيس الأوكراني، من أنه «بعد ربع قرن ستوقف الدول الأوروبية اعتمادها على توريدات الغاز الطبيعي، بما في ذلك الغاز الروسي، وأنه على أوكرانيا أن تستعد لهذه اللحظة».
وفي ديسمبر2021، أصبح خط أنابيب الغاز (نورد ستريم2)، الرابط بين روسيا وألمانيا، معلقًا نتيجة الوضع القلق في أوكرانيا. وتبلغ قدرات هذا الخط 55 مليار متر مكعب سنويا، واستثماراته الإجمالية نحو 11 مليار دولار، ويعد من أهم مشروعات روسيا في أوروبا، ويمتد على طول 1230كم، وهو نفس الطريق الذي يمتد عليه (نورد ستريم1)، الذي بدأ العمل في عام 2012؛ لكن الخط الجديد يتجاوز أوكرانيا، ويبدأ من خليج نارفا في بحر البلطيق في روسيا، إلى جرايفسنالد في ألمانيا، ويمر في روسيا، وفنلندا، والسويد، والدنمارك، وألمانيا. وترى فيه الأخيرة وسيلة أمانها من الطاقة، حيث يمثل الغاز الروسي، نحو نصف وارداتها من الغاز، كما يمثل المشروع أهمية استراتيجية للاتحاد الأوروبي، ولهذا فهو أحد محاور الاختلاف الأوروبي الأمريكي.
وكان من المنتظر أن يبدأ توريد الغاز عبر (نورد ستريم2)، إلى ألمانيا في أكتوبر2021، بعد توقف العمل مدة عام؛ بسبب العقوبات الأمريكية. وبسبب نقص المخزون، وخفض شركة «غاز بروم»، كميات الغاز المصدرة إلى أوروبا، ارتبكت أسواق الغاز. ورغم أن خط الأنابيب الحالي، الذي يمر عبر بلاروسيا، وبولندا إلى ألمانيا يعمل بطاقته القصوى 32.9 مليار متر مكعب سنويًا، إلا أنه لا يكفي لتلبية الطلب الأوروبي، خاصة بعد أن أعلنت شركة الطاقة النرويجية -أكبر منتج ومورد للغاز إلى السوق الأوروبية- أنها لن تستطيع تلبية أكثر من 60% من الزيادة في الطلب على الطاقة في هذا الشتاء، ما جعل من الضروري تشغيل خط (نورد ستريم2)، وهذا الوضع ترتب عليه ارتفاع تاريخي في أسعار الغاز حتى قفزت بنحو 800% وتجاوزت 1800 – 1900 دولار لكل ألف متر مكعب.
وفي الآونة الأخيرة، ارتفعت حدة التوترات بين موسكو وواشنطن بسبب أوكرانيا. وكما هو معلوم فإن موسكو قد ضمت إليها شبه جزيرة القرم عام 2014، وزاد تدخلها في الشؤون الداخلية لأوكرانيا، وقامت جماعات تابعة لها بالاستيلاء على أجزاء من هذه الدولة. وفي 2015 فرض «الاتحاد الأوروبي»، و«الولايات المتحدة»، عقوبات اقتصادية على روسيا. ومؤخرًا قامت بوضع حشود عسكرية على حدودها مع أوكرانيا. ومع هذا الجو السياسي المتوتر في العلاقات الروسية الغربية، خاصة بعد التحذير من أن موسكو تمهد الطريق لغزو أوكرانيا، ارتبكت إمدادات الغاز الروسي، الأمر الذي كان له أثره البالغ على أسواق الأسهم التي شهدت انخفاضًا، فضلا عن هبوط سعر العملة الروسية «الروبل»، مقابل الدولار، إلى معدل 80 روبل لكل دولار، وانعكاسه على أسعار النفط التي شهدت ارتفاعا إلى ما فوق 90 دولارا للبرميل -وهو أعلى مستوى بلغته منذ 7 سنوات- خشية أن تصبح إمدادات الخام أكثر شحًا، بسبب هذه التوترات، وبسبب صعوبة تحقيق «أوبك بلس»، الزيادة المستهدفة في الإنتاج بمقدار 400 ألف برميل يوميا كل شهر بدءًا من أغسطس الماضي.
دعم هذه الزيادة في أسعار النفط، هبوط مخزونات النفط الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2012، وتوجه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، «البنك المركزي»، إلى اتباع سياسة نقدية متشددة، ورفع أسعار الفائدة، وإنهاء مشترياته من السندات في مارس، في محاولة منه للسيطرة على التضخم. وأدت المخاوف من إمكانية إعاقة شحنات النفط والغاز الروسية -في حالة حدوث تصعيد عسكري- إلى إبقاء أسعار الخام في حالة ارتفاع، برغم ارتفاع سعر الدولار الأمريكي، إثر إعلان سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
وتتوقع «أوبك»، في تقريرها الشهري يناير 2022، ارتفاع الطلب العالمي على النفط، بمقدار 4.15 ملايين برميل يوميا ليصل إلى 100.8 مليون برميل في ظل التعافي الاقتصادي، وذلك برغم المخاطر المرتبطة بوباء «كوفيد–19»، مع تأكيد محللي الأسواق أن احتمالات خفض الأسعار في أسواق النفط تظل محدودة، بسبب توترات الأوضاع في أوكرانيا والشرق الأوسط، والتهديد بفرض عقوبات قاسية على روسيا، تشمل قيودًا على صادرات التكنولوجيا المتقدمة، كما أن استمرار فرض العقوبات الأمريكية على إيران، وعلى رأسها حرمانها من تصدير نفطها، مع عدم التوصل إلى اتفاق في فيينا من شأنه أيضًا أن يعزز ارتفاع أسعار النفط.
في هذه الأثناء، أصدر «صندوق النقد الدولي»، تقريره السنوي عن آفاق النمو الاقتصادي العالمي، موضحا فيه أنه بعد انكماش الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج، بنسبة 4.8% في 2020، متأثرًا بجائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط، وانخفاض الطلب عليه، وتأثير الإجراءات الاحترازية على الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، وعجز رصيد المالية العامة البالغ 8.8% لدول مجلس التعاون؛ توقع الصندوق أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد الخليجي إلى 5.3% في 2022 في ضوء ارتفاع الطلب العالمي على النفط، وزيادة إنتاجه، بدءًا من أغسطس الماضي في «أوبك بلس»، وارتفاع أسعاره، كما توقع أن تبلغ نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للاقتصاد الخليجي 4.2 في 2022، وأن يبلغ معدل نمو الاقتصاد السعودي 4.8%، والكويت 4.2%، وكل من الإمارات والبحرين 3%، وسلطنة عُمان 2.9%.
وفي الاستطلاع الذي أجرته «رويترز»، في يناير 2022، نجد أن دول مجلس التعاون الخليجي، ستشهد في 2022، أسرع معدل نمو اقتصادي تحقق منذ سنوات؛ نتيجة ارتفاع أسعار النفط في ظل التوترات السياسية العالمية المتصاعدة في دول رئيسية منتجة، قد تؤدي إلى تراجع الإمدادات. وتوقع الاستطلاع أن ينمو الاقتصاد السعودي بـ5.7%، تليه الكويت والإمارات 5.3%، و4.8% على التوالي، بينما قطر، وسلطنة عُمان، والبحرين بين 3– 4%، كما أنه من المتوقع أن يتراوح التضخم بين 2– 2.8%.
وبينما تستفيد دول مجلس التعاون من ارتفاع أسعار النفط -للأسباب التي سبق ذكرها- إلا أن الأزمة الروسية الأوكرانية، يمكن أن يكون لها تداعياتها على إمدادات القمح والأعلاف، وذلك للوزن النسبي الكبير لأوكرانيا وروسيا في إنتاج وتصدير هذه السلع، حيث تعد الأخيرة أكبر مصدر للقمح عالميًا، بينما تعد الأولى ثالث أكبر مصدري الذرة عالميا.
وبالفعل، كانت أسعار الحبوب قد شهدت عام 2021، ارتفاعات كبيرة، ومن المحتمل أن يؤدي انقطاع إمدادات الحبوب، عبر البحر الأسود إلى ارتفاع كبير آخر في الأسعار، حيث تشحن صادرات أوكرانيا وروسيا ورومانيا وقزاخستان من البحر الأسود، وسيكون من المتضررين كثيرًا من هذا الوضع الدول العربية، وفي مقدمتها مصر -أكبر مستورد عالمي للقمح- ودول مجلس التعاون الخليجي التي تعتمد كثيرًا في تأمين غذائها على الاستيراد من الخارج. وفيما تستورد البحرين وقطر والكويت 100% من احتياجاتها من الحبوب، تستورد الإمارات 96% وسلطنة عُمان 94% والسعودية 92% طبقًا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو). وفي عام 2020 بلغ إجمالي الواردات الغذائية لدول مجلس التعاون أكثر من 53 مليار دولار، وفي آخر مارس 2020 قامت روسيا أكبر مصدري القمح في العالم بتقييد صادراتها من الحبوب لحماية استهلاكها الغذائي، فيما حظرت كزاخستان تصدير المواد الغذائية الرئيسية، ومنعت فيتنام ثالث أكبر مصدري الأرز صادراتها منه.
على العموم، فإن الاستفادة الخليجية من ارتفاع أسعار النفط، قد يحد منها تطورات أسعار الحبوب على وقع الأزمة الأوكرانية الروسية، ما يتطلب من أعضاء مجلس التعاون الخليجي تنسيق التحركات الاستثمارية لهم في الدول النامية، خاصة الإفريقية كمناطق واعدة بديلة، توفر لها احتياجاتها الغذائية، من دون التعرض لمثل هذه الصدمات التي تفرزها الأوضاع الدولية.