top of page

22/3/2022

نحو استراتيجية خليجية للأمن الغذائي

بينما ظلت جائحة كورونا تهيمن على اهتمامات العالم منذ بداية عام 2020، من حيث انتشارها في جميع الدول، وعدد الإصابات والوفيات، وجهود إنتاج الأمصال والأدوية، والخسائر الاقتصادية الفادحة الناجمة عنها، والتي جاوزت 15 تريليون دولار. وبينما لم يتعاف العالم بعد من هذه الجائحة، وما نجم عنها من موجة تضخمية، إذ بالعملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، والعقوبات الغربية على روسيا، والاحتمالات المفتوحة لتطور هذا الوضع، وخاصة أن التداعيات المرتبطة بها تطول جميع دول العالم، وتدفع كل منها إلى التحوط حفاظًا على أمنها، وخاصة الشق الاقتصادي من هذا الأمن، وبوجه أخص الأمن الغذائي، لما تمثله روسيا وأوكرانيا في التجارة العالمية للحبوب والأعلاف والزيوت الغذائية.

 

وبهذا المعنى، فإن دول مجلس التعاون الخليجي ليست استثناءً، بل إن اهتماماتها في شأن الأمن الغذائي تفوق غيرها، لقلة مواردها الطبيعية المؤهلة لإنتاج الغذاء، سواء من حيث شح المياه، أو الأراضي الصالحة للزراعة، أو المناخ القاسي، ومن ثم اعتمادها بنسبة تتجاوز 80% على الاستيراد من الخارج. وإذا كانت قد أمكنها تحقيق هذا الأمن في أوقات السلام اعتمادًا على مواردها المالية، حيث يزيد ناتجها المحلي الإجمالي على 1.6 تريليون دولار، وتحتل مرتبة متقدمة في مؤشر الأمن الغذائي العالمي؛ إلا أن أوقات الحرب تفرض شأنا آخر، حيث يأتي احتمال تسييس تجارة السلع الغذائية، أو حجب هذه السلع عن التداول، ناهيك عن الارتفاع الكبير في أسعارها. وليس أدل على ذلك ما سببته هذه الحرب من ارتفاع في أسعار القمح لمستوى لم تسجله منذ 14 عاما، واستضافة ألمانيا اجتماعًا لوزراء «مجموعة السبع»، لبحث تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الأمن الغذائي العالمي.

 

وتعد «أوكرانيا»، رابع أكبر مصدري القمح والذرة الصفراء عالميًا، وبلغت حصتها في الصادرات العالمية للذرة الشعير 17% في 2020، وفي القمح 9.4%، وهذه الصادرات مهددة حاليًا بالتوقف نتيجة تعطل الإنتاج وخطوط النقل والموانئ بسبب الحرب، كما أن العقوبات الغربية قد تعطل الصادرات الروسية، أو تتسبب في تسييس روسيا والموردين الآخرين لصادراتهم الغذائية أو حجبها عن الأسواق. وفي عام 2020 بلغت صادرات روسيا من القمح 19.4% من صادرات القمح العالمية، و12% من صادرات الذرة، فيما تستورد الدول العربية مجتمعة 60% من احتياجاتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا؛ بسبب السعر المنخفض مقارنة بالأسواق الأخرى، وتستورد دول الخليج من الأسواق الأوكرانية والروسية الحبوب واللحوم.

 

وفي واقع الأمر، تمثل الأسواق العربية أهمية خاصة في تجارة القمح الروسية والأوكرانية، إذ تستوعب نحو 35.3% من إجمالي صادرات القمح الروسية، و42.1% من إجمالي صادرات القمح الأوكرانية. وتعد الإمارات، وسلطنة عمان وقطر، أكبر الدول الخليجية استيرادا للقمح من روسيا وأوكرانيا. وتقارب حصة أوكرانيا وروسيا نحو 50% من إجمالي واردات هذه الدول من القمح، وفيما توقعت منظمة الأغذية والزراعة، (الفاو) ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بنسبة 20% في العام الحالي بسبب هذه الحرب، فإن من شأن هذا الارتفاع امتصاص جزء كبير من الزيادة التي تحققت في أسعار النفط، ومن ثم التأثير على خطط الاستقرار المالي، بعد فترة طويلة عانت فيها دول الخليج النفطية من تبعات سعر النفط المنخفض.

 

وعليه، فإن تأثر إمدادات الغذاء الخارجية نتيجة هذه الحرب، يضع قضية الأمن الغذائي على رأس الاهتمامات الخليجية، ويعيد الاهتمام أيضا إلى قطاع الزراعة والصيد البحري، الذي تضاءل نصيبه كثيرا في الناتج المحلي الإجمالي لحساب قطاعي الصناعة والخدمات. ولا يقتصر هذا الاهتمام على الزراعة في الداخل، بل يتوازى معه، وربما يسبقه الزراعة خارج الحدود ضمن استراتيجية خليجية متكاملة للأمن الغذائي.

 

وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن إجمالي مساحة الأراضي المستغلة للزراعة بدول مجلس التعاون يبلغ 10.5 آلاف كيلو متر مربع، معظمها في السعودية، تليها عمان، ثم الإمارات، كما بلغت كمية الإنتاج النباتي من هذه الأراضي نحو 8 ملايين طن غالبيتها من الخضراوات، تليها التمور، ثم الحبوب، فيما تبلغ الثروة الحيوانية 36.7 مليون رأس غالبيتها ضأن وماعز. ويبلغ إجمالي إنتاج الدواجن مليون طن تنتج منها السعودية نحو 73%، وإنتاج البيض نحو 8 ملايين بيضة تنتج منها السعودية نحو 66%، وبلغ إنتاج الأسماك نحو 753 ألف طن، تحتل منها سلطنة عمان 77%، وفيما بلغت الصادرات الزراعية لدول مجلس التعاون، نحو 4.3 مليارات دولار، فقد جاوزت قيمة الواردات الغذائية 53 مليار دولار، وبلغت قيمة التجارة البينية الخليجية من الأغذية 3 مليارات دولار من إجمالي تجارة بينية تزيد على 90 مليار دولار.

 

وإدراكًا للفجوة الكبيرة بين الإنتاج المحلي والاحتياجات، ومن ثم الاعتماد الكبير على الاستيراد، كانت هذه القضية محل اهتمام كبير منذ وقت مبكر لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، لأهمية التعاون بينهم لتحقيق الأمن الغذائي. وفي اجتماع الدوحة في ديسمبر 1996، أقر «المجلس الأعلى»، السياسة الزراعية المشتركة، والتي تم تعديلها في 2004؛ بهدف تحقيق التكامل الزراعي الخليجي، وتطوير استراتيجية مشتركة تعزز الاستخدام الأمثل، وكفاءة إدارة الموارد الطبيعية المتاحة، وتوفير أقصى قدر من الأمن الغذائي، اعتمادا على مصادر وطنية. وتبنت السياسة الزراعية المشتركة، برامج مشتركة لـ«تنسيق الخطط والسياسات الزراعية»، و«المسوحات واستغلال وصيانة الموارد الطبيعية»، و«الإنتاج الزراعي الغذائي»، وقد حققت دول المجلس من خلال التعاون فيما بينها إنجازات واضحة في تنفيذ هذه البرامج.

 

ومع ذلك، ظلت فجوة الأمن الغذائي كبيرة، ما دفع كل منها منفردا إلى التوجه الاستثماري للزراعة خارج الحدود. ووافق الاجتماع المشترك لوزراء زراعة دول المجلس في مارس 2016 على هذا التوجه للاستثمار الخارجي، بعد أن وقفت الندرة الشديدة لموارد المياه العذبة المتجددة، والمناخ القاسي ومحدودية الأرض الخصبة، كعقبات أمام الارتقاء بالقطاع الزراعي، وإلى جانب هذا التوجه الاستثماري الخارجي، أخذت دول المجلس أيضا في البحث عن التكنولوجيات الجديدة التي تستطيع التعامل مع ظروفها.

 

وفي هذا السياق، أطلقت الإمارات استراتيجية وطنية للأمن الغذائي، وأنشأت وزارة دولة لهذا الأمن، كما أطلقت السعودية استراتيجية الأمن الغذائي، ووضعت خطة لها تقوم على خمسة أهداف تشمل: نظام إنتاج محلي مستدام للسلع ذات الميزة النسبية، وتنوع واستقرار مصادر الغذاء الخارجية، وضمان الحصول على غذاء آمن ومغذٍ، وتشجيع العادات الغذائية الصحية، وبناء قدرات الجاهزية لمواجهة المخاطر المتعلقة بالأمن الغذائي. ووضعت السعودية 11 برنامجا لتنفيذ هذه الأهداف، كما تبنى مجلس التنسيق السعودي– الإماراتي، استراتيجية مشتركة للأمن الغذائي تم توقيع مذكرة تفاهم بشأنها بين البلدين في نوفمبر 2019. وفي الإطار ذاته، توجهت مملكة البحرين لإعداد استراتيجية وطنية للأمن الغذائي؛ تهدف إلى ضمان التوافر المستدام للأغذية، وتشجيع استخدام النظم الإنتاجية المبتكرة، والحد من هدر الغذاء، ويقوم على تنفيذ هذه الاستراتيجية لجنة وطنية للأمن الغذائي.

 

وعلى الرغم من ذلك، ظلت الجهود الوطنية في حاجة إلى التنسيق والتكامل، فأطلقت الكويت أثناء جائحة كورونا، مقترح إنشاء شبكة أمن غذائي متكاملة خليجية موحدة لتحقيق الأمن الغذائي النسبي لدول المنظومة الخليجية. وفي 16 أبريل2020، وافقت دول المجلس على هذا المقترح في الاجتماع الاستثنائي الثاني بين وزراء التجارة في مجلس التعاون، وهو الاجتماع الذي ركز أيضا على إيجاد قانون للتخزين الغذائي على المستوى الخليجي. وتعد هذه الشبكة التي تمت الموافقة عليها مقدمة لاستراتيجية خليجية موحدة للأمن الغذائي، تنسق بين الاستراتيجيات الوطنية، وتوظف الاستثمارات الخليجية الخارجية في المجال الزراعي في اتجاه تحقيق الأمن الغذائي الخليجي. وفي اجتماع اتحاد الغرف التجارية الخليجية في يونيو2021، أكد «سمير بن عبدالله ناس»، رئيس الاتحاد ورئيس غرفة تجارة وصناعة البحرين، أهمية الالتفات إلى مشروعات الأمن الغذائي، ودعا إلى وضع استراتيجية خليجية موحدة لهذا الأمن تستفيد من الدراسات التي قامت بها الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي بشأنه.

 

ولأهمية الاستثمار الخارجي في هذه الاستراتيجية، فقبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، كانت السعودية قد دشنت في فبراير2022، بوابة لحصر الاستثمارات الزراعية السعودية في الخارج لتكون قاعدة بيانات لهذه الاستثمارات متوجهة لتحقيق الأمن الغذائي، ضمن برنامج يشمل شريحة المواطنين المستثمرين خارج المملكة، وشريحة الموردين للمملكة، بما يسهم في تنويع واستقرار مصادر الإمدادات الغذائية الخليجية. ويعمل برنامج الاستثمار الزراعي الخارجي على تحقيق هدف تنويع استقرار مصادر الإمدادات الغذائية الخارجية، ويدعم هذا الاستثمار «صندوق التنمية الزراعية السعودي»، من خلال القروض الميسرة. وفي ذات الاتجاه كانت السعودية قد أسست شركة «سالك»، التابعة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وأناطت بها مسؤولية تحقيق الأمن الغذائي عن طريق الاستثمار في الخارج، وأصبح لهذه الشركة استثماراتها في أوكرانيا، وكندا، والهند، واستراليا، والبرازيل، وبريطانيا.

 

وكان هذا التوجه واضحًا أيضا في اتجاه الشركات الإماراتية لتحقيق استراتيجية الأمن الغذائي الخليجي، حيث غدت تستحوذ على مساحات شاسعة من الأراضي بحجم مدن في إفريقيا وأوروبا، وأنشأت مصانع عملاقة لتصنيع المواد الغذائية خارج الحدود، فضلا عن التعاقد على استيراد آلاف الأطنان من الحبوب والأعلاف وتخزينها داخل الإمارات وخارجها، والاستثمار في مشروعات تسمين الثروة الحيوانية، وصيد الأسماك، كما نشطت هذه الشركات في تجارة وتوزيع المنتجات الزراعية. وتنتشر الاستثمارات الزراعية الإماراتية عن طريق تأسيس شركات أو الاستحواذ على شركات قائمة أو تملك وتأجير مساحات أراضي وتخصيصها في زراعات الحبوب والأعلاف والفواكه والخضراوات. ومن أمثلة تلك الشركات: «شركة الغرير للحبوب»، التي تتجاوز مبيعاتها السنوية 3 مليارات دولار، و«شركة الخليج للسكر»، التي تبني مصنعًا في مصر بقيمة مليار دولار، و«شركة الفوعة للتمور»، التي توزع منتجاتها في 48 دولة، و«الوطنية للأعلاف»، و«العالمية للأسماك»، و«مبادلة للاستثمار»، و«شركة الظاهرة الزراعية»، التي تغطي استثماراتها 88 دولة في جميع قارات العالم. وتركز مشاريعها على زراعات الحبوب، وخاصة القمح والذرة والأعلاف والفواكه.

 

ومن خلال هذه الشركات غدت الإمارات تمتلك مصافي وصوامع عملاقة لتكرير السكر وتخزين الحبوب والمواد الغذائية؛ بهدف تأمين المخزون الاستراتيجي من السلع الأساسية وتصدير الفائض للخارج، ومن أمثلة تلك المصافي مصفاة دبي للسكر التي تعد الأكبر عالميًا، بإنتاج سنوي 1.8 مليون طن؛ أي أكثر من ضعف إجمالي الاستهلاك الخليجي البالغ 750 ألف طن سنويًا، ومن خلال هذه الشركات أسست الإمارات تحالف الأمن الغذائي.

 

وبدعم من «الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي»، التي تأسست في 1976، وتسهم فيها كل دول مجلس التعاون الخليجي، كان التوجه المبكر للاستثمارات الزراعية الخليجية إلى أقطار عربية في مقدمتها السودان، ومصر، والمغرب، وجيبوتي، والصومال، ومن ثم أصبح المحافظة على استقرار بيئة هذه الاستثمارات مرتبطة بالأمن الغذائي الخليجي من ناحية، كما أن هذه الاستثمارات تدعم اقتصادات هذه الدول من ناحية أخرى، سواء من ناحية الدخل أو التشغيل، ولطالما عدت السودان وحدها سلة غذاء الوطن العربي كله، وقدمت للاستثمارات الخليجية نحو مليوني فدان من الأراضي الزراعية، وهي وحدها مساحة كبيرة بإمكانها تحقيق الاكتفاء الذاتي لدول المجلس، بما يكفل أمنها الغذائي من مصدر قريب أقل كلفة، وأكدت السودان في ملتقى الاستثمار السعودي السوداني في سبتمبر 2021 حرصها على إزالة كل معوقات الاستثمار، فيما أكد وزير الزراعة السعودي استعداد المملكة لتعزيز استثماراتها في السودان، فيما تبلغ هذه الاستثمارات نحو 15 مليار دولار، وتبلغ الاستثمارات الإماراتية في السودان نحو 7 مليارات دولار.

 

على العموم، تبرز تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ومن قبلها جائحة كورونا، والتهديدات المتعلقة بالتغيرات المناخية، حاجة دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من أي وقت مضى إلى تنسيق سياساتها في الاستثمارات الخارجية الزراعية الرامية إلى تحقيق أمنها الغذائي، ضمن استراتيجية لتحقيق هذا الأمن، تبني على ما سبق اتخاذه من خطوات في السياسة الزراعية المشتركة، وتضمن أولوية دول الخليج في الحصول على ما تنتجه هذه الاستثمارات من أغذية، وضمان سلاسة التوريد وعدم تعرضه من الدول المضيفة لهذه الاستثمارات لإجراءات تعرقل أو تحد من إمداداتها من هذه الأغذية.

 

ومن ثم، تكفل هذه الاستراتيجية الموحدة تحقيق التكامل بين جهات الاستثمار لتعظيم الفوائد المرجوة منها، كما تكفل تنويع البدائل بين مناطق جغرافية في قارات العالم المختلفة شمالاً وجنوبًا وتجنب تركيزها على أماكن بعينها لضمان الإمدادات الغذائية على مدى العام.

{ انتهى  }
bottom of page