7/11/2019
الـمــظــاهـرات اللـبـنـانية.. السيـنـاريــوهــات الـمـطروحة
وصل المشهد السياسي اللبناني إلى ذروته بعد إعلان رئيس الوزراء، «سعد الحريري» استقالته يوم 29 أكتوبر، وسط ضغط شعبي متزايد، قائلا: «أنا في طريق مسدود»، ومؤكدا أنه «لا شيء يفوق إرادة الأمة». ومع ذلك فإن استقالته لم تُخمد الاحتجاجات المتزايدة منذ 17 أكتوبر في البلاد، والتي تطالب بإسقاط جميع رموز السلطة الموجودة على الساحة؛ كونها السبب الرئيسي للأزمات، والتخلص من النظام الطائفي الذي يمثله «حزب الله»، الأمر الذي أصبحت معه لبنان في وضع غامض، يزداد سوءًا، فيما سيؤول إليه مصير تلك الدولة التي عانت على مدار سنوات.
وكانت «ورقة» الحريري الإصلاحية، التي قدمها في شهر أكتوبر منذ بداية المظاهرات، وتشمل 17 قرارًا إصلاحيًا، متضمنة وعودا بخفض مرتبات الرؤساء والوزراء والمشرعين الحاليين والسابقين إلى النصف، وضمان عدم فرض ضرائب جديدة في ميزانية 2020. قد لاقت رفضا من جموع المحتجين، إذ وصفوها بـ«الواهية وغير الواقعية والفضفاضة». يقول «باسل صلوخ»، في «صحيفة واشنطن بوست»: على الرغم أن «الاقتصاد السياسي للطائفية في مرحلة ما بعد الحرب قد وصل إلى طريق مسدود، مازالت الحكومة تفضل الاستمرار في اللعب بأوراق الطائفية والفساد؛ للحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، بدلا من إصلاح النظام الحالي».
ووفقا للعديد من المحللين، فإن هذه الاحتجاجات لا تبدي أي علامات على التراجع، ويمكن وصفها بـ«الأطول والأكبر» في التاريخ اللبناني مع فرصة كبيرة للتحدي وتغيير الحكومة، وكذلك الظروف الاقتصادية التي أدت إلى نزول مليون شخص أو20% من الشعب إلى الشارع، وكما تصف «مجلة ذا ايكونوميست»، فإن «الحكومة كافحت ضد العديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية غير أن ذلك لم يلب رغبات المحتجين». يقول «فيصل عيتاني»، من «المجلس الأطلسي»، إنه «بخلاف حركات الاحتجاج الأصغر في البلدان الأخرى، فإن اللبنانيين قد ألقوا باللوم ليس على سياسات محددة، بل على نظام سياسي شجع النخبة على خرق العقد الاجتماعي والتلاعب بالانقسامات الطائفية لحماية نفسه، وبالتالي، فإن الظروف التي ظهرت فيها الاحتجاجات وأسباب السخط الشعبي ستظل ثابتة».
اللافت في الأمر أن هذه الاحتجاجات على الرغم من اتساع نطاقها، فقد تميزت بانعدام الطائفية التي طالما ميزت التحركات السياسية والشعبية في البلاد. وعادةً ما يتم تعريف الانتماء السياسي في لبنان على أساس الطائفة، مع تحديد ولاءات الأفراد ومصالحهم بحسب مذهبهم كمسلم «سني أو شيعي»، أو طائفتهم المسيحية، ويعد هذا جزءا لا يتجزأ من النظام السياسي للدولة. تقول «يمنى شام»، من «مركز الشرق الأوسط»، إنه «على الرغم من الانقسامات الطائفية التي تكررت في الخطابات السياسية على مدى العقود القليلة الماضية، ظهر ضمير وطني أخيرا بين الناس»، مؤكدة أن «الشعور بالانتماء الوطني ينمو ويتطور داخل المجالات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة خلال هذه الاحتجاجات».
ويرجح كثيرون أن هذا الشعور قد نتج عن أسباب اقتصادية؛ إذ تعاني جميع الطوائف من ارتفاع الدين العام وضعف الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة والتضخم وانخفاض مستويات المعيشة. وكما يصف تقرير «المركز العربي واشنطن دي سي»، إنهم «متحدون برغبة مشتركة في الإطاحة بالطبقة السياسية الحاكمة والتخلي عن نظام تقاسم السلطة وتوزيع المكاتب الحكومية والموارد العامة الذي حكم البلاد منذ إعلان الميثاق الوطني عام 1943». وتؤكد «مها يحيى»، من «مركز كارنيجي»، أن «هذه لحظة استيقاظ سياسي، فللمرة الأولى يطالب الشعب بإسقاط النظام الطائفي، ما يهدّد وجود الأحزاب السياسية المعتمدة على الهويات والطوائف».
وعلى الرغم من أن هذه الاحتجاجات تظل واسعة النطاق، وتكتسب زخمًا في مقاومة الحكومة اللبنانية، في الوقت الذي أطلق عليها اسم «الثورة المبهجة»، لتمتعها بأجواء سلمية؛ ما جعلها تختلف عن بقية احتجاجات العالم العربي، إلا أن بعض المحللين توقعوا بأنها لن تستطيع إثبات نجاحها وتحقيق آمال المتظاهرين وأهدافهم، إذ تواجه ثلاثة تحديات هي:
أولاً: افتقادها القيادة ووضوح الرؤية والأهداف التوافقية المحددة. واتفق المتظاهرون على أنهم يرغبون في تغيير شكل الحكومة، لكنهم لم يتفقوا على شكلِها الجديد الذي يرغبون فيه، فالبعض يطالب ببرلمانٍ علمانيٍّ يُنتخب أعضاؤه فرديًّا وليس بنظام القوائم الطائفية وهو النظام الحالي، بينما يخشى البعض الآخر من أن إصلاح النظام الانتخابي بهذا الشكل سيعزز من حضور حزب الله في البرلمان نظرًا إلى الأغلبية الشيعية. وبعبارة أخرى، حتى إن نجحت التظاهرات في الإطاحة بالقيادات الحالية، فإن هذا سيجلب التوتر والاضطراب بخصوص شكل الحكومة الجديدة ونظامها.
ثانيا: المقاومة من أصحاب المصالح الخاصة التي تستفيد من النظام الطائفي. وهناك طرفان يسعيان للإبقاء على الوضع الراهن سياسيًّا، أوَّلهُما، الموارنة، وفي الماضي، سيطرت أحزابها على الحياة السياسية، إلا أنهم الآن يمرّون بحالة من التهميش في الحياة العامة، لكنهم يتمتعون بمكانٍ مخصص في الحكومة فقط بناءً على نظام المحاصصة الطائفية. وحسب وصف «روبيرت نيكولسون»، من «صحيفة وول ستريت جورنال»، فإن هذه الحقيقة هي «جزء أساسيّ في عدم استقرار البلاد. فرغم توصيف لبنان على أنه بلد مسيحيّ إلا أنه يفقد مسيحيّته مع مرور الوقت، نظرًا إلى ازدياد تأثير المسلمين الشيعة في الحياة العامة. لذا، فإنه مع تغيَّر نظام الحكم ستقع أحزاب الموارنة تحت سيطرة القوة الانتخابية الشيعية. ولعل هذه الفجوة بين ما ينص عليه نظام الطائفية والواقع، هي ما جعلت «جبران باسيل»، وزير خارجية لبنان ورئيس أكبر أحزاب الموارنة، يسعى إلى تأييد النظام الحالي وحكومته بكل قوة.
وثانيهما، الشيعة، ويقودهم «حزب الله»، و«حركة أمل». ورغم تركيز حركة أمل على العمل السياسي إلا أن «حزب الله» يبقى القوة الأعظم تأثيرًا في السياسة اللبنانية. وتمول إيران مليشيات الحزب بما يجعله أقوى من الجيش الوطني، في الوقت الذي يمثل ذراعا سياسيا يسيطر على الساحة السياسية، كما أنه عنصر أساسي في الدولة اللبنانية الحديثة. وعمليا، يستفيد «حزب الله» من هذا الواقع، سياسيا واقتصاديا من خلال تكريس العقود الحكومية لإثراء نفسه إلى جانب الحفاظ على استقلاليته التشغيلية في جنوب لبنان، وعادةً، ما يحافظ على قاعدة دعم شعبية كبيرة من خلال تقديم نفسه كحزب مقاومة، ليس فقط قادرا على دعم المحرومين داخل لبنان، ولكن أيضًا في قتال العدو الخارجي «إسرائيل».
ومع ذلك، بدأ هذا الواقع في الانهيار والتغير وسط الاحتجاجات الأخيرة. تقول «حنين غدار»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، إنه «بعد أن افتخر لعقود بحماية المظلومين ومكافحة الظلم، قرر حزب الله الوقوف إلى جانب السلطة ضد المحتجين في الشوارع» ونتيجة لذلك، «لأول مرة منذ تشكيله في الثمانينيات، ينقلب الشيعة اللبنانيون ضده»، إذ أهدر هذه الشرعية الشعبية من خلال محاولته الإبقاء على الوضع الحالي، بما يجلبه عليه من مكتسبات.
وعلى الرغم من الاحتجاجات، يرفض «حزب الله» التراجع والسماح بتنفيذ الإصلاحات. ومن المرجح أن يلجأ مدعوما بالمليشيات التي تموِّلها إيران إلى استخدام القوة. ومع استمرار الاحتجاجات في النمو، قد يتجه لبنان نحو اشتباكات عنيفة بين الحكومة والمتظاهرين، مع احتمال أن يتصاعد هذا الأمر إلى حرب أهلية شبيهة بتلك التي اندلعت عام 2011 في سوريا واليمن وليبيا. يشير «جيفري ج» في «صحيفة الواشنطن بوست»، إلى أن «تشكيل حكومة من جانب واحد تتألف من أحزاب عسكرية مثل حزب الله والتيار الوطني الحر المسيحي ستؤدي إلى جولة جديدة من المواجهات بين الأحزاب ذات الصبغة الطائفية وقد ينتج عن هذا احتمال وقوع اشتباكات مسلحة مماثلة لتلك التي وقعت في مايو 2008 أو ربما سيناريو أسوأ».
ثالثًا، احتمال سقوط أي حكومة جديدة يتم تشكيلها إذا أخفقت في تلبية مطالب المتظاهرين بسرعة، وذلك بالنظر إلى التحديات الاقتصادية والسياسية التي ستواجهها. يقول «مايكل يونغ» من «مركز كارنيجي»، إن «أي حكومة جديدة ستواجه تحديًا كبيرًا». ولا يخفى أن المشاكل الاقتصادية متأصلة بعمق في لبنان وستستمر لفترة طويلة وتسبب تحديات على نطاق واسع. وعلى الرغم من أن تشكيل حكومة تكنوقراط قد يحظى بدعم شعبي، إلا أنها يجب أن تعمل ضد المصالح الخاصة للقوى السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم ومؤسساته التي تنفذ القرارات الحكومية، وفي هذه الحالة لن يكون للنخبة السياسية مصلحة في رؤية نجاح مثل هذه الحكومة؛ بل على العكس، سيعمل كل من حزب الله وحركة أمل وغيرها من الأطراف على تقويض أي حكومة جديدة. ويشير تقرير «مركز السياسة العالمية»، إلى أن «المشهد الأكثر احتمالا سيظل وجود اضطرابات طويلة الأمد ومستمرة، ناهيك عن الفراغ السياسي والأزمة الاقتصادية المتفاقمة». ومن ثمّ، فمن المرجح أن يتعرض لبنان لشلل سياسي على مستوى النخبة، خاصة أن الاضطرابات المستمرة وحالة الاستقطاب الطائفي لا يمكن لأي طبقة سياسية غير فاعلة معالجتها».
وعلى الرغم من ذلك، ووفقًا للعديد من المراقبين، تظل المطالبات بعودة الحريري لتولي منصبه مرة أخرى، ضمن أحد الخيارات المطروحة، وتمثل الاختيار الأقرب، خاصة أن الحكومة الجديدة التي سيشكلها ستكون من وزراء «تكنوقراط» فنيين وخبراء، يمتلكون القدرة على إصلاح الحالة الاقتصادية، وإجراء الإصلاحات التي ينادي بها الشارع، سواء في الصحة والتعليم وغيره، بعيدا عن أي انتماءات سياسية. وإن كان البعض يرى أن عودة «الحريري» لن تكون بالأمر الهين في ظل الضغط الذي يمارسه المحتجون والذين لن يقبلوا بأي مساومات قد تتم لإرضاء أحزاب أو طائفة بعينها.
على العموم، ليس من المستبعد أن تشهد الأيام المقبلة المزيد من الاعتداءات على المتظاهرين تنفّذها عناصر من «حزب الله»، في محاولة لتأكيد المكتسبات السياسية القائمة منذ عام 2016. غير أن ذلك سيصطدم بما تشهده الأرض اللبنانية، من انتفاضة واضحة على الحزب بكلّ ما يمثله، ومن ثمّ، لن يبقى من سبيل لحل الأزمة الراهنة، إلا بتشكيل حكومة اختصاصيين قادرة على كسب ثقة اللبنانيين، تعمل على إنقاذ البلاد من أزماتها المتراكمة، وفتح الطريق أمام سلسلة إجراءات ملموسة كمحاسبة كبار الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة وتعيد بالتالي الثقة بالدولة.