top of page

7/4/2022

المجتمع المدني والتنمية الشعبية في مملكة البحرين

المجتمع المدني، ذلك العدد الكبير من المنظمات الطوعية غير الحكومية وغير الهادفة للربح، والذي يتمدد بين الأسرة والدولة، ولا يسعى إلى الوصول إلى السلطة، وليس دينيًا ولا عسكريًا، ويعد وجوده ونشاطه دليلاً قويًا على الحيوية الاجتماعية، ومؤشرًا موثوقا للتحول الديمقراطي، وتعبيرًا عن الشراكة المجتمعية مع القطاعين العام والخاص في مسار التنمية الشاملة؛ غير أنه يتفرد عنهما بأنه هو الذي يقوم بالتنمية الشعبية، ولذلك يطلق عليه في أدبيات التنمية «رأس المال الاجتماعي»، وكما أن أي مشروع خاص لا يقوم إلا برأس مال يموله، كذلك فإن التنمية الشعبية أو تنمية المجتمعات المحلية تحتاج إلى رأس المال الاجتماعي.

 

وفي نشأته التاريخية، يعد المجتمع المدني تاليًا لنشأة الأسرة، وسابقًا لنشأة الدولة. وفي هذا التاريخ الطويل تعددت أجيال هذا المجتمع، بدءًا بالجمعيات الخيرية، إلى المهنية، والحقوقية، وصولاً إلى الجمعيات التنموية، وإن كان هذا لا يعني أن المرحلة اللاحقة تلغي السابقة، إذ تظل كل هذه الأجيال موجودة معًا على ساحة العمل العام، وإن كان جيل المنظمات التنموية في الوقت الحالي، هو الأكثر بروزًا.

 

وتملك البحرين «رصيدًا قويًا» من المجتمع المدني، يمتد تاريخيًا إلى عشرينيات القرن الماضي حين عرفت المملكة النوادي الثقافية والأدبية. ففي عام 1939. تم تأسيس غرفة تجارة وصناعة البحرين، وفي 1955 تأسست جمعية نهضة فتاة البحرين. وفي 1959. تصدى المشرع البحريني لأول مرة لتنظيم التراخيص لهذه الجمعيات، ثم أجرى عليه تعديلا في 1975. إلى أن صدر قانون الجمعيات والنوادي رقم 21 لسنة 1986. والقانون رقم 33 لسنة 2002. بشأن النقابات العمالية.

 

ومنذ أن أطلق جلالة الملك، مشروعه الإصلاحي عام 1999. شهد المجتمع المدني طفرة قوية في عدده ومجالات نشاطه، فارتفع من نحو 105 جمعيات لدى صدور الدستور المعدل 2002. إلى نحو 650 جمعية في 2022. وتعددت مجالات هذه الجمعيات من النشاط الخيري إلى المهني، والنسائي والحقوقي، والتنموي، ومجالات الأعمال وشؤون العمالة الوافدة، كما تشكلت لأول مرة في الخليج العربي «جمعيات سياسية»، تعد بمثابة «أحزاب»، وغدا دورها مقدرًا، وأنشأت الحكومة لدعمها مركزًا مختصًا يتبع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية، دونما تدخل في عملها.

 

ومنذ نشأتها، اشتغلت منظمات المجتمع المدني في البحرين بالعمل التنموي، فقامت برعاية الطفولة والأمومة، وإنشاء حضانات ورياض الأطفال، واحتضان رواد ورائدات الأعمال، والتدريب، والتوعية الصحية، ومكافحة الإدمان والعنف والتطرف والسلوكيات الخاطئة والمحافظة على سلامة البيئة. وتجلى دورها بشكل ملحوظ أثناء مكافحة «جائحة كورونا»، بتقديم الوجبات الغذائية والمطهرات والمشاركة الطوعية في أطقم الرعاية والتمريض والعزل، كما قامت من خلال التعاونيات بموازنة الأسعار في الأسواق، كما تضمن دور هذه المنظمات؛ رعاية وتأهيل ذوي الإعاقة، والمسنين، ومكافحة الأمية، وتعليم الكبار، وحل مشاكل العمال، ومساعدة الأسر المحتاجة، والمحافظة على الحرف التراثية، وإقامة مشروعات صغيرة لزيادة دخول الأسر، إلى غير ذلك من المجالات التنموية، حتى أصبح من المؤمل أن تكون منظمات المجتمع المدني، أحد أضلاع المشاركة الثلاثية في التنمية: «الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني»، خاصة في تنفيذ «رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، والأهداف الأممية للتنمية المستدامة.

 

وتنشط «التعاونيات»، كأحد أهم مكونات المجتمع المدني، حيث تعمل في كل مجالات النشاط الاقتصادي، ففي «كندا»، مثلاً من بين كل ثلاثة مواطنين مواطن واحد عضو في جمعية تعاونية، وتؤّمن التعاونيات في فرنسا نحو 700 ألف فرصة عمل، وفي اليابان ينتمي 91% من المزارعين إلى جمعيات تعاونية، وتشكل التعاونيات في الكويت80% من تجارة التجزئة، وتدير التعاونيات في بوليفيا ربع الادخار الوطني. وإذا كانت المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، تعد ركيزة أساسية في تنمية الاقتصاد البحريني؛ فإننا نجد هناك دورا بارزا للجمعيات الأهلية التي تنشط في دعم هذا التوجه، فمثلاً برزت «جمعية سيدات الأعمال»، التي تأسست في مايو عام 2000. وتعمل على تمكين المرأة البحرينية كسيدة أعمال، فضلا عن «مشروع بوابة المرأة»، و«الجمعيات النسائية»، التي تقدم قروضًا للمرأة المعيلة لتمكينها لكي تصبح صاحبة عمل، كما توجد جمعيات لرعاية المرضى، كالسرطان، والسكر، والروماتزم، وأنشأت الجمعيات الأهلية العديد من المستشفيات الكبرى. وفي الخدمات التعليمية، أنشأت العديد من المدارس في المراحل التعليمية المختلفة، ويظل المجال متاحا أمام المجتمع المدني البحريني للتوسع في هذا النشاط.

 

ومؤخرًا، احتفلت مملكة البحرين بإنجاز مبادرة جلالة الملك، بإنشاء 40 ألف وحدة سكنية، لحل مشكلة طول فترة انتظار الحصول على وحدة سكنية مدعمة، حيث اضطلعت الحكومة منذ وقت مبكر بملف الإسكان الاجتماعي، وقامت بإنجاز هذه المبادرة بالشراكة مع القطاع الخاص. وإذا كانت هذه الشراكة قد أصبحت مبدأ أساسيا في حل مشكلة الإسكان في المملكة، بما يعجل في هذا الحل، ويخفف عن كاهل الموازنة العامة؛ إلا أنه في ضوء الطلب المتزايد على المساكن تظل الحاجة قائمة إلى دور المجتمع المدني لدعم مشروعات الإسكان، كما هو الحال في مصر والعديد من بلدان العالم.

 

ومن الأنشطة التنموية الرئيسية التي تدعو المجتمع المدني البحريني إلى المشاركة فيها بقوة، نشاط «الصيد البحري»، و«الاستزراع السمكي». وفي مصر مثلاً، تتولى التعاونيات إنتاج نحو 97% من إجمالي ما تنتجه سنويًا من الأسماك، والبالغ نحو 2 مليون طن، ونحو80% من إنتاجها من الاستزراع السمكي. وحيث يغلب على نشاط هذا المجال المشروعات الصغيرة، فإن هذه المشروعات لا يمكن استدامتها، إلا من خلال تجمع تعاوني. ويعول على الأسماك في البحرين في حل مشكلة البروتين الحيواني من مصادر ذاتية. وبحكم موقعها وجغرافيتها، فإن أمام المملكة آفاقا واسعة لتنمية هذا الدور سواء من المصادر الطبيعية أو من خلال الاستزراع السمكي. ومن خلال التعاونيات أيضًا يمكن لصغار المقاولين الارتقاء بمساهمتهم في نشاط البناء والتشييد عن طريق جمعيات للإنشاء والتعمير، تجمع إمكاناتهم، وتعطيهم فرصة التقدم بعطاءات للمشاركة في تنفيذ العديد من المشروعات، وتضع لهم موطئ قدم بين الشركات الكبيرة لتنافسية الأسعار التي يتقدمون بها، كما يمكن لها أيضا أن تنشط في مجالات نقل البضائع من وإلى الموانئ، ومن المصانع إلى المتاجر، ونقل الركاب، والخدمات الإنتاجية كالمقايسة والوزن والمعايرة، فضلاً عن النشاط الإنتاجي الحرفي المعرض للانقراض.

 

وتعدد المجالات التنموية أمام منظمات المجتمع المدني البحريني؛ يستدعي فاعلية هذه المنظمات.. تلك الفاعلية التي تقوم أساسًا على الأعضاء وميلهم إلى العمل العام. ومن جانبها، تدعم الحكومة دور هذه المنظمات من خلال «مركز دعم الجمعيات الأهلية»، حيث توفر لها مقار لعملها، وتقدم المعونة الفنية والإدارية، وإتاحة المشاركة في المعارض لتسويق منتجاتها داخليًا وخارجيًا، وحضور الفعاليات الدولية، ومشاركتها في وضع التقارير الوطنية واللجان والمجالس والمؤسسات الوطنية.

 

ومع ذلك، تظل المشكلات الداخلية أحيانًا لبعض هذه المنظمات معوقًا أمام تفعيلها، فأحد المبادئ الأساسية لمنظمات المجتمع المدني، مبدأ «ديمقراطية الإدارة». ويقتضى إعمال هذ المبدأ، أن تكون هناك جمعيات عمومية واعية وملتزمة، لكن في بعض الأحيان يتغيب كثير من أعضاء هذه الجمعيات العمومية عن حضور اجتماعاتها، بينما هم المسؤولون عن التصديق على ميزانيتها السنوية، وتقرير نشاط مجلس الإدارة وخطة عملها، كما أن الانتخابات أحيانًا قد لا تأتي بأفضل العناصر، وحينها تضعف المنظمة، وقد تتجمد وتغيب عنها المبادرات، ومن ثمّ، قد لا تكون العبرة في منظمات المجتمع المدني بعددها، ولكن بتلك الفاعلة في أداء دورها.

 

ومع تأكيد حرص الحكومة البحرينية على المشاركة الفعالة لمنظمات المجتمع المدني، ومساعدتها في حل مشكلاتها لتعظيم هذه المشاركة؛ أرست مبدأ «الشراكة المجتمعية»، كأحد الركائز المهمة في المجتمع البحريني، بمقتضى مبادرة وزير الداخلية، الفريق أول الشيخ «راشد بن عبدالله»، منذ عام 2006. حيث يرتبط الأمن بمفهوم التنمية المستدامة، فلا يمكن تنفيذ خطط تنموية في غياب الأمن والاستقرار. وفي 18 مارس من كل عام، يأتي «يوم الشراكة المجتمعية»؛ لخلق أجواء إيجابية من أجل مجتمع آمن متعاون يعزز روح الأسرة الواحدة.

 

وارتباطًا بهذه الشراكة المجتمعية، أطلقت المملكة، «الخطة الوطنية لتعزيز الانتماء» وأقرتها في 26 مارس 2019. والتي تحوي أكثر من 100 مبادرة، يقوم على تنفيذها مؤسسات الدولة، والمجتمع المدني، خاصة من خلال مبادرة «درة التشبيك مع المنظمات الأهلية»، التي تستهدف إنشاء منظومة مهنية متقدمة للتعاون بين منظمات المجتمع المدني لتطوير الخدمات التنموية المقدمة منها.

 

على العموم، مع اتساع الدور وتعدد مجالات المشاركة أمام «منظمات المجتمع المدني»، يقع عليها أن تأخذ بالأسباب الداعمة لدورها. وكما أتاح التشريع البحريني لنقابات العمال أن تشكل اتحادا أو أكثر فيما بينها، فإن كل قطاع من قطاعات هذه المنظمات يحتاج إلى مثل هذه الاتحادية، التي تقوم بالتنسيق وتعزيز التعاون بين وحدات هذا القطاع، كاتحاد المنظمات التعاونية، واتحاد الجمعيات المهنية، والاتحاد النسائي، كما أن المجتمع المدني في حاجة إلى تبني أساليب الإدارة الحديثة، وتحديد الفواصل بين اختصاصات مجلس الإدارة المنتخب، والجهاز التنفيذي المعين، مع الحرص على وضع أكفأ العناصر في تشكيل هذا الجهاز، وتبني أفضل الممارسات استفادة بخبرة نظائرها في دول العالم المتقدمة.

 

وفي الأخير، تظل مشاركة منظمات المجتمع المدني، أحد أهم ثوابت النظام السياسي البحريني، ما يقتضي من هذه المنظمات أن تستفيد من عناصر القوة لديها، والفرص المفتوحة أمامها كمنظمات للتنمية الشعبية لا غنى عنها.

{ انتهى  }
bottom of page