21/4/2022
التكامل الصناعي الخليجي.. ضرورة استراتيجية
يبين تاريخ العالم الاقتصادي أن التصنيع قد مثّل الحلقة المحورية في تحقيق تقدم الدول، وذلك لآثاره الواسعة والعميقة التي يرتبها لكل القطاعات، لا سيما إذا حدث تكامل بين بعض الدول، فإن ذلك من شأنه أن يجعل الصناعة أكثر كفاءة وأكثر ربحية، ويحتوي أسباب المنافسة التي أشعلت الحروب، وهذا الإدراك هو الذي خلق السوق الأوروبية المشتركة في نهاية خمسينيات القرن الماضي بين دول طالما تصارعت وتحاربت، والتي كانت نواة الاتحاد الأوروبي كما نراه اليوم.
وقد سعت مناطق أخرى في العالم إلى اقتفاء الدرس الأوروبي، وتحقيق التكامل الصناعي بين دولها، والتوافق على ترحيل الصراعات القائمة بينها حتى يتحقق هذا التكامل. وحين تحقق أوجد لها مصلحة مشتركة في أن لا تؤدي الأسباب السياسية إلى النيل من هذه المصالح الاقتصادية التي تحققت. ولعل النموذج الأبرز في ذلك هو نموذج «الآسيان»، في منطقة جنوب شرق آسيا، التي توافقت على أن تحدي الفقر والتخلف أكبر بكثير من التحديات السياسية، وأنه لا سبيل أمامها لمواجهة هذا التحدي إلا عبر التكامل الصناعي بين دولها.
وفي إدراك لذلك، تقدم «اتحاد الغرف التجارية الخليجية»، باقتراح لوزراء التجارة والصناعة بدول مجلس التعاون الخليجي، خلال جائحة كورونا في نوفمبر 2020، يدعو إلى أهمية التكامل الصناعي بين الدول الأعضاء في الصناعات الصحية والطبية والزراعة والمواد الغذائية، ويحث على ضرورة دفع الاستثمار بما يعزز استدامة الأمن الغذائي والصحي الخليجي، في ضوء أن العديد من الدول قد اتخذت إجراءات حمائية حظرت فيها تصدير المواد الغذائية، والأدوية، في الوقت الذي تستورد فيه دول مجلس التعاون نحو 90% من احتياجاتها الغذائية، وتأتي في المرتبة الثامنة عالميًا في واردات الأغذية، وقد بلغت قيمة وارداتها منها نحو 52 مليار دولار في 2020. والتكامل الصناعي بين دول مجلس التعاون، -خاصة في السلع الاستراتيجية- فضلاً عن أنه يحقق لها الاكتفاء الذاتي بإحلال المنتجات الوطنية، فإنه يزيد صادراتها غير النفطية، ويوفر الكثير من فرص العمل للمواطنين، ويحقق أمنها في وقت الأزمات المختلفة.
ومن المعلوم أن النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي قد ركز بشكل رئيسي على تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين مختلف دوله في جميع المجالات، وتوثيق الروابط بين شعوبها، ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصادية والتجارية والجمركية والنقل وفي كافة المجالات الأخرى وصولاً إلى وحدتها. ونصت المادة الثامنة من الاتفاقية الاقتصادية لعام 2001 على أن تعمل الدول الأعضاء على بذل كل جهد من أجل زيادة مساهمة قطاع الصناعة في الاقتصاد الوطني، وعلى أن تقوم الدول بتوفير التشريعات والأنظمة الداعمة لذلك.
ولتحقيق الاستفادة القصوى من القطاع الصناعي فإن الأمر يقتضي وضع خريطة صناعية لكل دول المجلس، ومن ثم توزيع إقامة المصانع بينها، استنادًا إلى الميزة النسبية لكل دولة، بما يحقق التكامل الفعلي، ويعود بالفائدة على الجميع دون منافسة أو تكرار، ويرشد إقامة الصناعات على أساس الكفاءة والإنتاجية، بما يسمح لها بالمنافسة مع الخارج في الأسواق غير الخليجية، والاستفادة من حجم السوق الخليجي الذي تزيد قيمته على 1.7 تريليون دولار. ومن صور التكامل الصناعي التي أوجدتها العولمة أن جزءا من الصناعة يتم في البلد وجزء يتم في بلد آخر اعتمادًا على الميزة النسبية، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك صناعات السيارات وأجهزة الحاسوب.
وبالفعل، أخذ مجلس التعاون الخليجي عدة خطوات في اتجاه تحقيق التكامل الصناعي، كإقرار «الاستراتيجية الموحدة للتنمية الصناعية» لدول المجلس عام 1985، وتعديلاتها في 1998، وتحقيق المواطنة الخليجية في المجال الصناعي، وإعفاء المنتجات الصناعية ذات المنشأ الوطني في الدول الأعضاء من الرسوم الجمركية والرسوم ذات الأثر المماثل. وقضت الاتفاقية الاقتصادية 2001، بمبدأ معاملة السلع المنتجة بدول المجلس نفس المعاملة الوطنية. ومنذ بدء تنفيذ الاتحاد الجمركي في عام 2003، تم إعفاء جميع المنتجات المصنعة في دول المجلس من الرسوم الجمركية. وبمقتضى قرارات المجلس الأعلى في دورته في أبوظبي 1986 تم السماح للمستثمرين من مواطني دول المجلس بالحصول على قروض من بنوك وصناديق التنمية الصناعية بالدول الأعضاء ومساواتهم بالمستثمر الوطني، كما قضت قرارات المجلس الأعلى في دورته بمسقط 2001، بإعفاء مدخلات الصناعة من الرسوم الجمركية.
وتشريعيا، وضع «مجلس التعاون»، العديد من التشريعات الموحدة المدعمة لعملية التكامل الصناعي، كالقانون الموحد للتنظيم الصناعي لدول المجلس، وقانون مكافحة الإغراق وقواعد إعطاء الأولوية في المشتريات الحكومية للمنتجات الوطنية، وقواعد موحدة لتشجيع قيام المشروعات الصناعية الخليجية المشتركة، واستخدام المنتجات الصناعية الخليجية كجزء من القروض والإعانات التي تقدمها دول المجلس لدول أخرى، واستراتيجية تنمية الصادرات الصناعية غير النفطية، وشهد شهر يناير 2022 انطلاق فعاليات ورشة العمل الخليجية لمناقشة مسودة الاستراتيجية الصناعية الموحدة لدول المجلس.
وبالنظر إلى هيكل القطاع الصناعي لدول المجلس، نجد أن قطاع المعادن الإنشائية والنقل يتصدران بقية القطاعات، يليهما قطاع صناعة المنتجات الكيميائية والبتروكيميائية. وقد شهد القطاع الصناعي نموًا متسارعًا في دول المجلس، سواء من حيث عدد المصانع أو الاستثمارات أو حجم القوى العاملة. وأولت دول المجلس اهتمامًا كبيرًا بتنميته، سواء لجهة توفير البنية الأساسية اللازمة وإنشاء المدن الصناعية، أو لجهة إنشاء صناديق التنمية الصناعية. ومنذ 2003 تعمل «منظمة الخليج للاستشارات الصناعية»، بالتعاون مع «منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية»، «اليونيدو»، على «مبادرة الشبكة الخليجية للمناولة والشراكة الصناعية»، وتطبق هذه الآلية على الصناعات الصغيرة والمتوسطة، بواسطة دمج المبادرات المقدمة من دول المجلس، وربط جميع مراكز المناولة والشراكة الصناعية على أرضية مشتركة، فالشبكة هي مركز للربط الصناعي بين المشترين والموردين لتعزيز سلاسل الإمداد، ودعم قطاع الصناعات التحويلية لوصوله إلى أسواق جديدة، وتم إنشاء بوابة تفاعلية لهذه الشبكة، فيما تم تسجيل أكثر من 1500 مورد من دول المجلس عليها، وبلغ عدد أعضاء مركز مناولة دبي 418 عضوًا، والبحرين 200، وقطر 276، والكويت 400، والسعودية 528.
وفي سعيها لتحقيق التكامل الصناعي، استضافت مملكة البحرين في أكتوبر 2021، الاجتماع «48»، للجنة التعاون الصناعي الخليجية، في توجه إلى أن يحظى قطاع الصناعة بمزيد من الاهتمام خلال الفترة المقبلة، كونه أحد الخيارات الرئيسية لتعزيز التنويع الاقتصادي، وبما يواكب الثورة الصناعية الرابعة، بالتركيز على الصناعات التي تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وتطوير الأنظمة والسياسات والقوانين.
واستمرارًا لهذا النهج، تتجه دول مجلس التعاون لمواصلة تنفيذ رؤاها الاقتصادية 2030، والتي تحتل فيها الصناعة مكانة بارزة، مستهدفة أن تصل نسبتها في الناتج المحلي الإجمالي الى 25% بحلول 2030. وتستهدف استراتيجية قطاع الصناعة البحريني (2022–2026)، رفع مساهمة قطاع الصناعة التحويلية من 12.8% في 2019، إلى 14.5% في 2026، وزيادة عدد العاملين في هذا القطاع من نحو 59 ألفا في 2019، إلى نحو 65 ألفا في 2026، ورفع نسبة البحرنة من 23% إلى 25.3%. وقد وضعت الاستراتيجية نصب أعينها العمل في إطار مجلس التعاون الخليجي لتحقيق التكامل الذي أكد عليه قادة المجلس في قمتهم الأخيرة في ديسمبر 2021.
ومن جانبها وضعت الإمارات خططا استراتيجية تستهدف رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 133 مليار درهم في 2020، إلى 300 مليار درهم عام 2031، مع التوجه لتهيئة الإمارات لتكون مركزا إقليميا وعالميا لصناعات المستقبل. وفيما تبلغ نسبة الصناعات التحويلية نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، فإنه خلال الفترة من (1970–2019)، حققت هذه الصناعات معدل نمو سنوي مركب نحو 5.2%، وغدت تمثل نحو 54.2% من إجمالي الصناعات التحويلية الخليجية. وفي عام 2020، حقق قطاع الصناعة القطري معدل نمو 6%، فيما بلغ عدد المصانع 927 مصنعا، وقادت الصناعة النمو الاقتصادي لسلطنة عُمان والكويت في 2021.
وإلى جانب هذه الرؤى، تمتلك الصناعات الخليجية الكثير من مقومات التكامل، مثل الثروات المعدنية الهائلة. وفي السعودية وحدها تقدر بنحو 5 تريليونات ريال منتشرة في أكثر من 5300 موقع، من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها. إلى جانب قدرة تمويلية تتمثل في أرصدة الصناديق السيادية، وعمالة ماهرة مدربة، وسوق كبير خليجي وإقليمي، وبنية تحتية صناعية محفزة، بالإضافة إلى مبادرات ناجحة، من أمثلتها في البحرين «شركة الخليج لصناعة البتروكيماويات»، و«شركة ألبا»، التي أصبح إنتاجها السنوي يتجاوز 1.35 مليون طن لتصبح أكبر مصهر ألومنيوم في العالم. يضاف إلى ذلك، المشروعات الخليجية المشتركة التي تؤهل الربط والتشابك الصناعي، كجسر الملك فهد بين السعودية والبحرين، والذي يدعمه جسر الملك حمد، ومشروع السكة الحديدية الخليجية، والربط الكهربائي. وقد كان من أبرز نتائج قمة العلا في ديسمبر 2020، إحياء المشروعات المشتركة، وتعزيز التكامل الاقتصادي الخليجي، غير أن المشروعات الصناعية الخليجية المشتركة مازالت دون مستوى الطموح الذي تتطلع إلى تحقيقه الشعوب الخليجية.
وتعزيزا لهذا الدور، أتاحت «اتفاقية التجارة الحرة البحرينية الأمريكية»، فرصًا واسعة للصناعات الخليجية لوصول منتجاتها إلى السوق الأمريكية، حال تكاملها مع الصناعات البحرينية. وأعلنت المملكة ضمن حزمة المشاريع الاستراتيجية والاستثمارية التي تم الإعلان عنها في «استراتيجية قطاع الصناعة» «2022–2026»، مشروع منطقة التجارة الأمريكية في مدينة سلمان الصناعية. وتعد هذه المنطقة بمثابة مركز إقليمي للتصنيع والتجارة والخدمات اللوجستية والتوزيع بين الشركات الأمريكية في البحرين وأسواق دول مجلس التعاون وخارجها، وتسهل عمليات التصدير عبر ميناء خليفة بن سلمان ومطار البحرين الدولي وجسر الملك فهد.
ويتيح التكامل الصناعي الخليجي في هذه المنطقة إعفاءً من الرسوم الجمركية والاستفادة من الكوادر الوطنية المؤهلة، والخدمات اللوجستية عالية المستوى، كما يمكن للتكامل الصناعي الخليجي الاستفادة من المشروعات الصناعية في منطقة الصناعات التحويلية للألومنيوم قرب مصنع ألبا، وقد اجتذب هذا المشروع بالفعل شركة ألبستر الأسبانية لتدشين أول مصنع لتكرير حبيبات الألومنيوم وإنتاج سبائك الألومنيوم عالية الجودة والاستخدامات لأغراض متعددة، ويخصص هذا المصنع نحو 85% من إنتاجه للتصدير للأسواق الخليجية وآسيا وأمريكا.
على العموم، فيما يكفل التكامل الصناعي الخليجي عدم تكرار المشروعات وعدم اقتسام الأسواق، ويحقق الاعتماد المتبادل بين دول مجلس التعاون في سلسلة الإنتاج الصناعي، وفيما تتسع الفرص لتحقيق هذا التكامل بين الصناعات القائمة والجديدة؛ فإن هذا التكامل قد أصبح «ضرورة استراتيجية»، لتحقيق مستهدف الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي، حيث توجهت إليه الرؤى الاقتصادية لدول المجلس، ولتعزيز حجم التجارة غير النفطية بين دول المجلس والقوى الاقتصادية الكبرى، مثل الاتحاد الأوروبي، الصين، الهند، الولايات المتحدة. وفضلا عن ذلك، يُمكن دول المجلس من قدرة أكبر على تحقيق شروط أفضل في مبادلاتها التجارية، والتعامل مع مقتضيات الثورة الصناعية الرابعة، آخذًا في الاعتبار أن المشروعات التي قامت منفردة في قطر دون تكامل مع الأقطار الأخرى قد عانت من تحدي ارتفاع التكلفة وضيق السوق.