28/4/2022
القطاع الخاص البحريني.. والمسؤولية الاجتماعية
غدت المسؤولية الاجتماعية تمثل أحد المبادئ الرئيسية لممارسة الأعمال في العديد من دول العالم خاصة المتقدمة منه، وبرزت على وجه الخصوص مع سيادة اقتصاد السوق، والاتهامات الموجهة إلى الاقتصاد الرأسمالي بأنه لا يراعي البعد الاجتماعي، وما اكتنف التحول لاقتصاد السوق من معتقدات خاطئة، مفادها أن القطاع الخاص في ظل هذا الاقتصاد يتمتع بحرية مطلقة، قد تصل به إلى إقصاء منافسيه. وبرغم الأبعاد الأخلاقية لمفهوم المسؤولية الاجتماعية، فإن هذا الاعتقاد الخاطئ قد اقتضى من الحكومات التدخل أحيانًا بوضع قواعد تنظيمية للمنافسة، ومناهضة الاحتكار، كما كانت تدخلاتها للحد من الأضرار البيئية وحماية حقوق العمال وأجورهم.
وبرغم أن هذه التدخلات الحكومية ينظر إليها متطرفو المدرسة الليبرالية على أنها تعيق عمل الأسواق، إلا أن أسبابها -وهي تتعلق بالمصلحة العليا للمجتمع- قد جعلتها مبررة، وأدى الأمر بدراسات الأعمال إلى أن يكون هناك التزام ذاتي من قبل قطاع الأعمال تجاه المجتمع، يوازن بين البعد الاقتصادي للعمل، والبعد الاجتماعي للبيئة التي يعمل فيها. يشمل هذا التوازن أن جزءا من الأرباح التي حققتها الشركة أو الفرد نتيجة ممارسة العمل في مجتمع معين ينبغي أن يعود على هذا المجتمع. وبرزت لذلك أوجه عديدة، كالمشاركة في مبادرات مكافحة الفقر، أو تحسين الخدمات الصحية، أو تحسين البيئة أو التوجه إلى حل مشكلات كالسكن والمواصلات. وشجعت الحكومات هذا الالتزام الذاتي بالحوافز والإعفاءات الضريبية، بل والتمكين من فرص الأعمال، بإعطاء الشركات الملتزمة بالمسؤولية الاجتماعية فرصًا أكبر في المشتريات والأعمال الحكومية. وصار المفهوم الأشمل للمسؤولية الاجتماعية يتجاوز حدود العمل الخيري المعتاد، ويتعداه إلى مفهومه الأكثر للمشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع.
وفي العديد من بلدان العالم تطور التزام الشركات بالمسؤولية الاجتماعية إلى أنها تُصدر سنويًا -إلى جانب تقريرها المالي- تقرير المسؤولية الاجتماعية، حيث أخذت بمبدأ البعد التكاملي مع الحكومة والمجتمع المدني. ومن جهة القطاع الخاص، تبدو المسؤولية الاجتماعية في تجاوبه مع مؤسسات خدمة المجتمع لتحقيق أهداف تنموية ضمن التنمية المستدامة، والمساهمة في استقرار المجتمعات. وللحكومة دور في قيام القطاع الخاص بمسؤوليته الاجتماعية، يتمثل في توفير التسهيلات والخدمات والمعلومات والإحصاءات والتراخيص والموافقات، والتنسيق ومنع التكرار، وتشجيع المبتكرات وترسيخ مبدأ التطوع وإطلاق الجوائز المحفزة.
وفي مملكة البحرين، فإن القطاع الخاص، هو الذي يقوم بأغلبية النشاط الاقتصادي، وقد عززت الحكومة دوره من خلال تبنيها سياسة الحرية الاقتصادية، حيث وفرت له العديد من المزايا التي تمكنه من فرص الأعمال، سواء من حيث الإعفاءات الضريبية، أو إسناد الأعمال الحكومية إليه، أو الترويج لفرص نشاطه في الخارج، بل إنها قد لجأت إلى خصخصة كثير من الأنشطة التي كانت تقوم بها، وصدر لذلك المرسوم بقانون رقم 41 لسنة 2002، بشأن سياسات وضوابط الخصخصة، ومن ذلك خصخصة حافلات النقل العام في 2003، وتشغيل ميناء خليفة بن سلمان في 2006، والدخول في عقد بناء وامتلاك وتشغيل المرفق في محطة العزل للكهرباء في نفس العام، وبيع حصة من شركة ألبا في 2010، ومحطة الدور للكهرباء والمياه في 2012.
وتعد «رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، نبراس عمل الحكومة، في اتجاه تنويع اقتصاد المملكة وتقليل الاعتماد على النفط، حيث حصرت دور الحكومة في التنظيم والتنسيق والتسهيل والتمكين والتشريع وإقامة البنى التحتية، في الوقت الذي يقوم فيه القطاع الخاص بالنشاط الاقتصادي، وجعلت الحكومة الشراكة مع القطاع الخاص استراتيجية في تنفيذ سياساتها، لجأت إليها في كل نواحي التنمية البشرية، خاصة الصحة والتعليم والإسكان، ثقةً في قدرات هذا القطاع وعلاقاته الإقليمية والدولية، وبما يخفف أيضًا عن كاهل الإنفاق العام بعد أن أصبح يتجاوز الإيرادات العامة.
وتاريخيًا، يمكن القول إن القطاع الخاص البحريني، هو الذي وضع مسيرة البلاد على طريق التنمية، فأعطاها شخصيتها التجارية التي عُرفت بها، حين كانت التجارة نشاطه الرئيسي، وكانت البحرين محطة رئيسية للتجارة الخارجية. ودعم هذا القطاع بقوة وضع البحرين على طريق الحداثة بدعمه بدايات التعليم النظامي، وكوّن التجار جمعيتهم التي أصبحت فيما بعد «غرفة وتجارة صناعة البحرين» الرائدة على مستوى المنطقة، وكان لها إسهاماتها الاجتماعية، فضلاً عن دورها الاقتصادي، والتنسيق بين التجار ورجال الصناعة ومنع ظهور الاحتكار والأخذ بيد المشروعات الصغيرة، وتنوع أسواق الاستيراد والتصدير، وجذب الاستثمارات الأجنبية المبشرة، وتمكين المواطن البحريني من فرص العمل.
وتنظيمًا لهذا الدور، صدر القانون رقم 48 لسنة 2012 بشأن غرفة وتجارة البحرين، ليتواكب ويتكامل مع حزمة من التشريعات ذات الصلة، كقانون النقابات العمالية رقم (33) لسنة 2002، والقانون رقم (19) لسنة 2006، بشأن تنظيم سوق العمل، والقانون رقم (36) لسنة 2012، بشأن العمل في القطاع الأهلي. وعليه، أصبح القطاع الخاص البحريني، هو المشغل الرئيسي للعمالة بنسبة تصل إلى 70% بمتوسط رواتب شهرية تبلغ 760 دينارا، ملتزمًا باقتدار لتحقيق نسب بحرنة واقعية ومتوازنة.
ويلقى موضوع «المسؤولية الاجتماعية» للقطاع الخاص في مملكة البحرين اهتمامًا بالغًا، حتى صارت «المنامة»، مقرًا «للشبكة الإقليمية للمسؤولية الاجتماعية»، التي تأسست عام 2007، كمؤسسة مهنية دولية غير ربحية ولها فروع ومكاتب في عدة دول كقطر، والسعودية، ومصر، وتونس، واليمن، والسودان، وتركيا، وهولندا، وبريطانيا، حيث تضطلع بمهمة رفع مستوى الوعي للشركات والمؤسسات حول مسؤوليتها الاجتماعية، مستهدفة نشر كل ما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، وتشجيع القطاع الخاص على ممارسات هذه المسؤولية، وتعمل بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني.
ودعما لهذه الخطوات، أُشهرت «الجمعية البحرينية للمسؤولية الاجتماعية» في2011، وأطلقت فعاليات «مؤتمر البحرين للمسؤولية الاجتماعية والتنمية المستدامة»، وكانت نسخته الثالثة في 2018، الذي نظمته بالتعاون والتنسيق مع الهيئة الوطنية للنفط والغاز، وعقد تحت رعاية الشيخ «محمد بن خليفة»، وزير النفط، وكان من أبرز توصياته ضرورة الحصول على شهادات اعتماد دولية في المسؤولية الاجتماعية للدخول في المناقصات المطروحة، ومشاركة القطاع الخاص في مشاريع التنمية المستدامة، ووجود برامج تنافسية لإبراز دور المسؤولية الاجتماعية بالشركات، ووجود منهج متخصص للمسؤولية الاجتماعية في قطاع التعليم. وأطلقت الجمعية «جائزة البحرين الدولية للمسؤولية الاجتماعية»، وهي جائزة معنوية تعطى للشركات الأفضل ممارسة في المسؤولية الاجتماعية، وهي الآيزو، بما يعني إظهار مدى التزام ومساهمة ومشاركة الشركة في التنمية المستدامة.
وفي إدراك لذلك، دعت المؤتمرات السابقة الجمعية إلى إنشاء محفظة تمويل من قبل القطاع الخاص، تدار عن طريق لجنة وطنية مستقلة، وتسهم في بناء مشاريع التنمية المستدامة، وإنشاء لجنة أو شركة مساهمة تعكف على تقليص البطالة، وخلق فرص عمل وتأهيل العاطلين، وإصدار قانون يلزم القطاع الخاص باستقطاع نسبة من الأرباح لدعم برامج التنمية المستدامة، خاصة أن «الهند»، أصدرت مثل هذا القانون بتحديد نسبة 2% للمسؤولية الاجتماعية، كشرط أساسي لمزاولة النشاط التجاري، كما أن «الكويت» أصدرت قانونا يُلزم المصارف بتخصيص نسبة 5% من أرباحها للبحوث العلمية.
وكما نشط القطاع الخاص في إطار مسؤوليته الاجتماعية في بناء المستشفيات، ومراكز الخدمات الصحية، وبناء القاعات متعددة الاستخدامات للمناسبات الاجتماعية، ودعم بعض الأنشطة الرياضية والاجتماعية، وتقديم منح للطلبة بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فإن هناك العديد من مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص في المملكة في مجال التنمية الاجتماعية، كإدارة وتشغيل «مركز المتروك للتأهيل الإرشادي»، وإدارة وتشغيل «نادي سلوة لذوي الإعاقة»، و«مبادرة تكافل(1) لتأهيل الأطفال ذوي الإعاقة»، و«مبادرة تكافل(2) لتوفير الأجهزة والمعينات لذوي الإعاقة»، و«مركز عبدالله بن علي كانو لتشخيص وخدمة المعاقين»، و«مركز التأهيل الأكاديمي والمهني»، و«دار بنك البحرين الوطني لتأهيل الأطفال ذوي الإعاقة»، و«مركز شيخان الفارس للتخاطب الشامل»، و«مركز بنك البحرين والكويت للتأهيل»، و«مركز الطفل للرعاية النهارية»، و«مركز الحد لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة».
ولأن البنوك تلعب دورا أساسيا في المسؤولية الاجتماعية قد يفوق دور القطاعات الأخرى، نظرًا لتأثيرها في خلق الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة، وتأثيرها في البيئة وتمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فقد حث «مصرف البحرين المركزي»، ووجه البنوك في المملكة إلى الارتقاء بممارسات المسؤولية الاجتماعية إلى أعلى المستويات، والتوجيه بتوضيح هذا الدور تفصيلاً في تقاريرها السنوية، حيث تتبرع البنوك لإنشاء المدارس والمستشفيات ودور الرعاية وحاضنات رواد الأعمال وغيرها. وبرز دورها خلال جائحة كورونا بتأجيل أقساط المقترضين، ما مكن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من تحمل تداعيات الجائحة، وحرصت على تطوير الخدمات الإلكترونية لحماية المجتمع من العدوى، وتسهيل وتحسين جودة الخدمات. ومنذ 1980 يخصص «بنك البحرين الوطني»، 5% من أرباحه السنوية للبرامج والمؤسسات والمشروعات التي تدعم التكافل الاجتماعي. وفي عام 2020 فاز «بنك البحرين الإسلامي»، بجائزة أفضل بنك للمسؤولية الاجتماعية في البحرين. ويسلط هذا الفوز الضوء على المبادرات والمساهمات التي قام بها البنك تحت مظلة المسؤولية الاجتماعية «جود»، التي ركزت على التعليم، والابتكار، والاستثمار في قطاعات الشباب، ضمن مساعي البنك لتأسيس قوى عاملة وكوادر مستعدة للمستقبل.
واستكمالا لهذا الدور، تؤدي «جمعية المصارف البحرينية»، دورًا مماثلاً لجمعية المسؤولية الاجتماعية في تشجيع أفضل الممارسات بين المصارف، وتحسين مناخ الاستثمار، وخدمة المجتمع المصرفي، وتسهيل تعامل الأنظمة المصرفية مع ذوي الاحتياجات الخاصة. وشكلت الجمعية لجنة دائمة للمسؤولية الاجتماعية، ومؤخرًا أكد رئيسها من خلال مشاركته في مؤتمر وجائزة «المسؤولية الاجتماعية للمصارف الإسلامية»، الحاجة إلى إنشاء جهاز خاص للمسؤولية الاجتماعية في مملكة البحرين، يتولى مهمة رسم استراتيجية هذه المسؤولية للقطاع المصرفي والمالي. وتعمل هذه الاستراتيجية على الانتقال بالمسؤولية الاجتماعية من النطاق المحلي إلى الإقليمي والدولي، بما يعزز مكانة البحرين إقليميًا ودوليًا، من خلال مساهمتها في التنمية المستدامة وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
وبرغم أنه في مملكة البحرين لا يوجد بعد قانون يلزم الشركات بالإفصاح عن ممارستها المتعلقة بالمسؤولية الاجتماعية كل عام، أو أن تكون هذه الممارسة شرطًا للتقدم للمناقصات والعقود الحكومية أو شرطا لإدراج الشركة في السوق المالية؛ إلا أن العديد من الشركات البحرينية تمارس طوعًا هذه المسؤولية. ولعل أبرز ظهور لها كان أثناء جائحة كورونا من خلال حملة «فينا الخير»، كما يبدو هذا النشاط الطوعي في التخفيضات التي تمنحها بعض شركات القطاع الخاص في الخدمات التي تقدمها للمسنين، وكذلك السلع التي تقوم ببيعها بعض السلاسل التجارية لهذه الفئة، كما يمنح العديد من الشركات مبالغ سنويًا للأعمال الخيرية والإنسانية والتطوعية، وقد تقترن تلك الممارسات بالترويج للشركة وتحسين سمعتها لدى العملاء الحاليين والمحتملين، أي تكون جزءا من العلاقات العامة والتسويق.
على العموم، مع تحول «المسؤولية الاجتماعية»، إلى كونها أحد الحلول الرئيسية لتنفيذ أجندة التنمية المستدامة، فقد تعالت أصوات خاصة في المجتمع المدني، مطالبة بتشريع يقنن هذه المسؤولية، ويحدد نسبة من أرباح الشركات لها، إلا أن هذا يقتضي بدايةً وضع تعريف واضح محدد لها للشركات، حيث نجد تعددا في التعريفات والمعايير، ولكل منطقة معاييرها الخاصة بها، فهناك من يدرج اعتبارات حماية المستهلك والبيئة والعمال وحقوق الإنسان وغير ذلك، وهناك من لا يدرج مثل هذه القضايا، ويركز على الأعمال الخيرية، كما يقتضي ذلك أيضًا اختيار الوقت المناسب واستطلاع رؤى أصحاب المصلحة والمعنيين بتطبيق هذا التشريع غير أن الأولوية في الوقت الحالي هي مسؤولية القطاع الخاص في تأهيل وتدريب وتشغيل المواطن البحريني باعتباره الخيار الأفضل لشغل الوظيفة، وتفعيل برامج الشراكة الاستراتيجية مع الحكومة خاصة في مجالات التنمية البشرية.