20/5/2022
الغزو الروسي لأوكرانيا وتأثيره على الأمن الغذائي العربي
ترتفع درجة عدم اليقين فيما يتعلق بوقت انتهاء العملية العسكرية، التي قام بها الرئيس الروسي «بوتين»، في أوكرانيا، أواخر فبراير الماضي، فيما لم يحتسب أي من الطرفين -الدول الغربية أو روسيا- التبعات الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تطال دول العالم، وعلى رأسها عدم انتظام إمدادات السلع الرئيسية، مثل المواد الغذائية والطاقة، خاصة أن هناك دولا يعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على الاستيراد -ومن بينها الدول العربية- ما يجعل هناك توجس من طول أمد هذه الحرب، كما امتدت الحرب الكورية «1950–1953»، والحرب الفيتنامية «1955–1975»، وحرب أفغانستان «1979–1989».
ومع استمرار تداعيات الحرب، وتوقف تصدير المواد الغذائية الروسية، وتعطيل موانئ التصدير الأوكرانية، ولجوء المنتجين ضمن موجة النزوح واللجوء الضخمة من أوكرانيا -والتي جاوزت نحو 6 ملايين شخص- إلى الدول المجاورة، خسر السوق الدولي من صادرات القمح الروسي والأوكراني نحو 50 مليون طن، ومن الشعير نحو 11 مليون طن، ومن الذرة نحو 60 مليون طن، ومن زيت عباد الشمس، نحو 10 ملايين طن.
ومن المعلوم، أن الدول العربية تستورد نحو 63.5% من احتياجاتها من القمح، ونحو 75% من الذرة، و55% من الأرز، و65% من السكر، و55% من الزيوت النباتية. وكانت «منظمة الأغذية والزراعة» (الفاو)، قد أعلنت تسجيل المواد الغذائية «رقمًا قياسيًا، في أسعارها، هو الأعلى منذ 60 عامًا. وكانت فاتورة استيراد الدول العربية للأغذية قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، قد بلغت نحو 100 مليار دولار سنويًا. ووفقًا للمنظمة، فإن أكثر الدول العربية انكشافًا للأزمة الغذائية هي: «سوريا، واليمن، والسودان». وتستورد الدول العربية نحو 60% من احتياجاتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا، بسبب مزايا السعر المنخفض.
وعلى الرغم من بحث العديد من الدول النامية، ومن بينها الدول العربية، عن مصادر بديلة لتعويض الواردات الأوكرانية والروسية من السلع الغذائية؛ فإن هذا الأمر، هو «أكثر تكلفة» خاصة بعد أن لجأت بعض هذه المصادر إلى حظر صادراتها من هذه السلع، تحوطًا لاعتبارات الأمن الغذائي لشعبها، فقد قفزت أسعار القمح إلى أسعار قياسية، بعدما فرضت «نيودلهي» قيودا على الصادرات يوم 14/5/2022، وهو ما انتقده وزراء الزراعة بمجموعة الدول السبع الكبرى، باعتباره يفاقم الأزمة حول العالم.
وتعتبر «الهند، هي أحدث دولة تستخدم قيود التجارة لمواجهة تضخم أسعار المواد الغذائية في الداخل، بحجة ضمان الأمن الغذائي لسكانها البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة. وكانت «مصر» قد لجأت إليها لتأمين وارداتها من هذه السلعة. وفي حديثه، عن إدارة مصر لهذه الأزمة، ذكر رئيس الوزراء المصري في 16 مايو 2022، أن الكلفة المباشرة التي تحملتها الحكومة نتيجة هذه الأزمة، بلغت نحو 7.1 مليارات دولار، فيما بلغت الكلفة غير المباشرة نحو 18.1 مليار دولار. وكاستراتيجية متوسطة الأجل للتعامل مع هذه الأزمة، أعلنت الحكومة عن توسيع المساحة المخصصة لزراعة القمح، بواقع مليوني فدان، بحلول نهاية 2024.
علاوة على ذلك، تواجه دول «الاتحاد الأوروبي» أيضًا، «نقصًا شديدًا» في زيت عباد الشمس، حيث يأتي ما مجموعه 46.9% من الصادرات من أوكرانيا. وكانت الدول الأشد تأثرًا هي الدول الإفريقية الفقيرة، حيث تستورد 35 دولة احتياجاتها من القمح والحبوب الأخرى من أوكرانيا، وروسيا، وتستورد 22 دولة الأسمدة من البلدين. ووفقًا لدراسات «بنك التنمية الإفريقي»، ترتب على ذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بنسبة من 20–50%. ووفقا لتقرير «الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية»، فإن الأزمة المركبة الناجمة عن «جائحة كورونا»، و«الحرب الروسية الأوكرانية»، قد أضافت 40 مليون شخص إلى أولئك الذين يعانون حالة انعدام الأمن الغذائي عالميًا، ليبلغ إجماليهم 193 مليون شخص، وقد غدت إفريقيا ضحية تبعات أزمة ثلاثية نتيجة هذه الحرب؛ «الغذاء، والطاقة، والأزمة المالية».
وفي تأييد آخر لهذا، كان سعر خام «برنت»، قد بلغ 22 دولارا للبرميل في مارس 2020، وفي نفس الشهر من عام 2022 -بعد أيام فقط من العملية العسكرية- ارتفع إلى 130 دولارا للبرميل، في الوقت الذي تحصل فيه أوروبا على نحو 25% من احتياجاتها من النفط الروسي، وعلى 46.8% من احتياجاتها من الغاز الروسي. فضلا عن ذلك، يؤدي نظام العقوبات الأمريكي إلى ارتباك الأسواق، كما تؤثر العمليات العسكرية والعقوبات على عمل شركات النفط الغربية في قطاع النفط الروسي، وما لذلك من تأثير على صادرات النفط الروسية. ومع الضغط الأمريكي على أوروبا للتحرر من الاعتماد على النفط والغاز الروسي، على أن يتم تعويض الإمدادات من دول منتجة أخرى، كـ«قطر، والجزائر، واستراليا، والولايات المتحدة، والنرويج، ومصر»، وتحويل جزء من الإمدادات المتوجهة لليابان، وكوريا إلى أوروبا؛ فإن ذلك فعليا يصعب تنفيذه، بسبب كلفته العالية، ما يرفع من تكلفة الطاقة، ويعود تأثيره بالسلب على أسعار السلع الصناعية التي تُصدرها أوروبا إلى الدول النامية.
ومع ارتفاع أسعار الوقود، سجلت «الولايات المتحدة»، أعلى معدلات تضخمها منذ 40 عامًا في الشهر الأول لاندلاع الحرب، وزادت أسعار السلع بنسبة 8.5% في أكبر زيادة سنوية منذ ديسمبر 1981. ولم يعوض هذا الارتفاع في معدل التضخم، الزيادة التي حدثت في الدخول، والتي كانت 5.6%، ما يعني أن مستوى المعيشة في أمريكا، قد تأثر بشكل كبير. وفيما لجأت «واشنطن»، إلى سحب 2.7 مليون برميل من النفط الخام من احتياطيها الاستراتيجي في مارس 2022، والضغط على «أوبك»، لزيادة إنتاجها النفطي، للتخفيف من حدة هذه الأزمة، إلا أنها لا تستطيع الاستمرار في تفريغ مخزوناتها، كما أن هناك حدودًا لزيادة إنتاج «أوبك»، التي لا تستطيع تعويض غياب النفط الروسي عن الأسواق، والبالغ نحو سبعة ملايين برميل يوميًا.
وعلى الرغم من أن الدول الأكثر اعتمادًا على تصدير النفط -خاصة الخليجية- تستفيد من ارتفاع أسعار النفط، والبتروكيماويات، والألومونيوم. ولأول مرة منذ 2014، تحقق هذه الدول فائضا ماليا، يقدر في العام الحالي، بـ27 مليار دولار، ما يمكنها من إنعاش صناديقها السيادية، غير أن هذه الزيادة يتم استهلاكها في تحمل تبعات توفير الأمن الغذائي لشعوبها، وتوفير احتياجات الأمن، واحتياجاتها من السلع الصناعية، فضلاً عن دورها في دعم الدول العربية الأخرى، ومساعدتها في تحمل تبعات زيادة أسعار المواد الغذائية والطاقة.
وفضلاً عن تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات الغذاء وارتفاع أسعارها، وأسعار الطاقة والسلع الصناعية؛ فإن هذه الحرب أفقدت العديد من دول العالم، ومن بينها الدول العربية، «مصدرًا مهمًا»، لدخلها، وهو السياحة الوافدة من كلا الدولتين روسيا وأوكرانيا. وكانت دبي في عام 2021 الوجهة المفضلة لـ6% من السياح الروس (600 ألف)، وجاء ترتيبها بعد مصر بنسبة 10% (مليون سائح) وتركيا بنسبة 45% (4.7 مليون سائح)، كما أسفرت الحرب عن انخفاض عدد السياح الروس، وتخفيض إنفاق هؤلاء السائحين، مع تأثر السياحة بتعليق عمل المزيد من البنوك الروسية على «نظام سويفت» للتحويلات النقدية بين البنوك، واستمرار تدهور سعر الروبل. ويذكر، أن السياحة تمثل لدبي خمس ناتجها المحلي الإجمالي، فيما قدرت خسائر مصر من تراجع السياحة الروسية والأوكرانية بنحو 3 مليارات دولار.
وعليه، فإن أهم الدروس المستفادة من المشهد الاقتصادي العالمي الراهن للدول العربية، هو تحقيق أكبر درجة ممكنة من الاكتفاء الذاتي من السلع الاستراتيجية، بعيدًا عن الاعتماد على الخارج، وتعزيز التعاون العربي في هذا الشأن، والعمل على حل المشكلات السياسية المعرقلة لهذا التعاون، حيث كشفت الأحداث الأخيرة، مخاطر الاعتماد على مصدر واحد، بعيد عن السيطرة لتأمين الغذاء.
وعلى الرغم من وقوف الظروف المناخية، وندرة الموارد، «عائقًا»، أمام دول الخليج في تحقيق هذا الهدف؛ فإنه يمكنها قيادة تحالف عربي لتحقيقه، ووضع ذلك في إطار استراتيجيتها لتحقيق الأمن الغذائي. وفي أثناء «جائحة كورونا»، نجحت هذه الدول في مواجهة تحدي الأمن الغذائي، اعتمادًا على تكوين مخزونات هائلة للمواد الغذائية، والعديد من حزم الدعم للقطاع الزراعي، والتوسع في الاستثمار الخارجي.
يقوم هذا التحالف العربي المنشود على استثمار الموارد الزراعية المتاحة في عدد من الأقطار العربية، وعلى رأسها السودان، خاصة أن 14% من إجمالي مساحة الدول العربية، (نحو 200 مليون هكتار)، صالحة للزراعة، والمستغل منها 5% فقط. وقد حال دون استغلالها ضعف الإمكانات المادية ومشكلات ري وتأثير النزاعات. ومن ثمّ، يمكن لتكامل زراعي عربي حقيقي، بين التمويل والخبرة والأرض والتكنولوجيا الحديثة، سد الفجوة الغذائية العربية.
إلى جانب ذلك، يتولى هذا التحالف، دعم مخزون استراتيجي كاف، وتأمين مصادر إمداد بديلة، وخطوط إمداد آمنة. وتحتاج دول الخليج إلى هذا التحالف؛ لأن قيمة وارداتها الغذائية تزيد على نصف الواردات العربية (53.1 مليار دولار)، فضلا عن ارتفاع عدد سكانها نحو (59 مليون نسمة). وتأتي الدعوة لهذا التحالف، في إطار دعوة «منظمة الأغذية والزراعة»، عام 2021، لإنشاء تحالف عالمي من أجل الغذاء، حين كانت جائحة كورونا تجتاح العالم، ولمنع تحول هذه الأزمة الصحية إلى أزمة غذائية، فيما دعت وزيرة «التنمية الألمانية»، إلى إبرام اتفاق عالمي للأمن الغذائي في أعقاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
علاوة على ذلك، يعد هذا التحالف إحياءً لإعلان الرياض، لتعزيز التعاون العربي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية، الصادر عن رئيس وأعضاء المنظمة العربية للتنمية الزراعية في دورتها الـ«30»، بالرياض في30 أبريل 2008. وفي فبراير 2022، استضافت «الدوحة»، فعاليات «منتدى المنظمة الإسلامية للأمن الغذائي»، لبحث سبل التعاون بين الدول الإسلامية ورفع قدراتها في تحقيق الأمن الغذائي. وتعد الدول الخليجية، بحكم استثماراتها الضخمة في المجال الزراعي خارج الحدود، وقدراتها التمويلية، هي المؤهلة في المرحلة الحالية لقيادة هذا التحالف، كما يعد السودان -إذا جاز التعبير- هو المجال الحيوي الخليجي والعربي لتحقيق الأمن الغذائي المستدام، وسلة غذاء العالم العربي. ويمتلك «السودان»، ثروة حيوانية تبلغ أكثر من 100 مليون رأس، يمكنها توفير الاحتياجات العربية من اللحوم الحمراء، وفرص متاحة للاستثمار، بأراض يمكن زراعتها بالقمح.
وفي حين تحقق هذا النهج من التعاون، فإن استثمار هذه الأراضي، يؤمن احتياجات السودان بالكامل، ونحو ثلث حاجة مصر (نحو 6.5 ملايين طن). ويحتاج ذلك إلى شراكات تعاقدية بين القطاع الخاص السوداني، الذي يمتلك الأرض، والقطاع الخاص العربي، الذي يوفر مدخلات الإنتاج، بما فيها العمالة، التي يعول عليها من مصر. ويمكن توسيع هذه العلاقة التعاقدية في مساحات أخرى. وعليه، يمكن توفير احتياجات الأمن الغذائي الخليجي والعربي, من مصدر عربي موثوق، فضلاً عن دفع عجلة التنمية الشاملة في السودان.
على العموم، مع استمرار تداعيات الحرب في أوكرانيا على الوضع الاقتصادي العالمي، وتأثير ذلك بصورة حادة على أسواق السلع الأساسية، والآثار بعيدة المدى للتوقعات بالنسبة للدول النامية؛ تظل الحاجة الآن قائمة أكثر من أي وقت مضى لتفعيل التعاون بين الدول العربية، لتأمين احتياجاتها من السلع الساسية، والاستفادة من الدراسات العديدة المنجزة في هذا الشأن، والتي بينت أن المنطقة العربية التي يتزايد فيها عدد السكان بسرعة تمتلك المقومات الذاتية لتحقيق أمنها الغذائي.