29/6/2022
كيف ينظر الرأي العام البريطاني إلى سياسة بلاده الخارجية؟
في الدول الغربية عادةً ما يُوجِه دفة الخطاب العام حول مسار السياسة الخارجية؛ ردود الفعل الدولية إزاء الأحداث العالمية الكبرى، ثم يأتي بعد ذلك دور النقاشات والرؤى السياسية المشتركة، وخير شاهد على ذلك الغزو الروسي لأوكرانيا. ويعكس هذا الواقع حقيقة أنه نادرًا ما كانت السياسة الخارجية مسألة ذات أهمية كبرى في خضم معارك الانتخابات العامة والرئاسية، لا سيما عند مقارنة أهميتها مع القضايا الداخلية المتمثلة في الاقتصاد والرعاية الصحية.
ويتضح هذا الأمر، حينما نجد أنه قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020، وصف 57% من الناخبين قضية السياسة الخارجية، بأنها «مهمة للغاية» لأولوياتهم، وذكر 79% أن الاقتصاد هو «الأكثر أهمية»، بينما اعتبر 68% برامج الرعاية الصحية «العامل الرئيسي» لتحديد اختياراتهم الانتخابية. وعليه، علق «بروس ستوكس»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية» -في ذلك الوقت- أن الناخبين يريدون من الرئيس المقبل «التركيز أولاً على القضايا الداخلية».
وعندما يتعلق الأمر بالمملكة المتحدة، رأت «فيكتوريا هانيمان»، من جامعة «ليدز»، أنه قبيل الانتخابات العامة لعام 2019، بدا واضحًا أن السياسة الخارجية، «لا تمثل موضوعًا ملحًا»، حيث غالبًا ما تكون التصريحات الحزبية مليئة «بعبارات جوفاء لا مغزى لها»، و«قليل من الإيضاحات الملموسة»، بشأن ملامح البرامج الانتخابية، وملف سياستها الخارجية عن القضايا الدولية.
ومع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أن فهم مواقف العامة ودرجة اهتمامهم بالأحداث الخارجية يساعد في تعزيز وتشكيل الخطاب إزاء الشؤون الدولية، وبالتالي التأثير على مسار عمل أي حكومة. ووفقا للمسح الذي أجرته «صوفيا جاستون»، من «مجموعة السياسة الخارجية البريطانية»، حول التوجه العام للسياسة الخارجية للمملكة المتحدة، فإن مستوى اهتمام البريطانيين بالشؤون الخارجية، قد انخفض عما كان عليه سابقًا. وفي حين أن 77% من المواطنين كانوا «مهتمين» بقضايا السياسة الخارجية في عام 2020، انخفضت النسبة لتصبح 71% في عام 2021، وسرعان ما انخفضت أكثر إلى 62% عام 2022. ورغم أن 26% آخرين أوضحوا اهتمامهم «للغاية» بالسياسة الخارجية، أعرب 29% عن مشاعر مختلطة وتضارب وتناقض آرائهم في هذا الصدد، واعترف 9%، بأنهم «غير مهتمين تمامًا بما تفعله لندن دوليًا».
علاوة على ذلك، انخفضت نسبة المواطنين، الذين يشعرون بأنهم «مطلعون على الشؤون الخارجية لبلادهم»، من 57% عام 2021، إلى 43% فقط في عام 2022، مع شعور 33% بحالة من التذبذب «بين الاطلاع تارة، والافتقاد إليه تارة أخرى»، لكن 24% يعترفون بحقيقة «عدم إطلاعهم بشكل واضح».
ولمزيد من تحليل هذه الأرقام، أكدت «المجموعة»، أن البريطانيين الذين لديهم مستويات عالية من الاهتمام بقضايا السياسة الداخلية؛ هم أكثر قابلية لمتابعة الأحداث الدولية، بنسبة (88%)، في حين أن الذين لا يقرأون أي صحيفة ما، هم «أقل احتمالية إلى حد بعيد» من الاهتمام، بما تفعله لندن على المستوى الدولي وهم بنسبة 49% فقط».
وحول استعراض «المسح»، للمواقف العامة تجاه الهوية البريطانية وتناولها للشؤون العالمية، لاسيما ما يتعلق بما إذا كان البريطانيون يعتبرون أنفسهم «أوروبيين»، أو «مواطنين عالميين»، أوضح أن الجدل العام وما شهده من انقسام «حول عضوية المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي، بدأ يتلاشى في قوته وهيمنته على الأجندة السياسية حاليًا»، وسرعان ما يخوض البريطانيون الآن «تطورًا في ملامح هوياتهم الدولية»، في الوقت الذي لا يزال مفهوم «الهوية الأوروبية محتفظًا بقوته من قبل شريحة لا يستهان بها من المواطنين». وربما كان هذا جليًا عندما اختار 49% منهم تعريفهم على أنهم «أوروبيون»، مقارنة بـ45% من الرافضين لهذا التوصيف.
وبشأن ما إذا كان البريطانيون يعتبرون أنفسهم «مواطنين عالميين»، فإن هذا أمر تبدو المملكة «منقسمة بشدة» بشأنه. وانخفضت النسبة التي اختارت تسمية أنفسها بهذا المصطلح من 46% في عام 2021 إلى 42% عام 2022«. ورغم أن هذه النسبة تكاد تقترب من 43%، فإن «المجموعة»، استنتجت أن غالبية البريطانيين لا يميلون إلى التحلي بهذا التوصيف».
وفي نفس المنحى، اكتشف المسح أيضًا أنه في عام 2022، لا يُعتبر غالبية البريطانيين «مواطنين وطنيين»، مع انخفاض نسبتهم من 53% إلى 45% العام الحالي. وفي حين أن 64% من البريطانيين الذين تزيد أعمارهم على 55 عامًا يعتبرون أنفسهم «وطنيين»؛ فإن 35% فقط ممن تتراوح أعمارهم بين 35 إلى 54 عامًا، و30% ممن تقل أعمارهم عن 35 عامًا؛ يعتبرون أنفسهم «وطنيين».
واستمرارًا لذلك، تناولت «المجموعة»، أيضًا التصورات العامة حيال شعار السياسة الخارجية للمملكة المتحدة «بريطانيا العالمية»، والذي تم طرحه خلال «المراجعة الاستراتيجية المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية لعام 2021». ومن الواضح أن معرفة المواطنين أو فهمهم لهذا الشعار «محدودة». ووصفت «جاستون»، مشروع بريطانيا العالمية، بأنه «غير مفهوم»، بالنسبة لعامة البريطانيين، مستشهدًة بالبيانات التي تُظهر أن أكثر من ربع المواطنين من الذكور ممن خضعوا للمسح «لم يسمعوا أبدًا بهذا المصطلح، وأن 12% فقط منهم يعتقدون أنهم يفهمون معناه تمامًا. وبالمثل، تمت الإشارة إلى أن أسباب تأكيد «المراجعة الاستراتيجية»، ميل حكومة المملكة، نحو «المحيطين الهندي والهادئ في العقد المقبل»؛ «غير مفهومة» من قبل المواطنين»، وأن هناك حاجة لسرد مبررات أكثر إقناعًا»، لتوجيه تمويل واستنفاد طاقات من أجل منطقة تفتقر إلى «القرب الجغرافي» من بريطانيا.
وحول فهم وجهة نظر الرأي العام تجاه حلفاء المملكة المتحدة وشركائها، لا سيما فيما يتعلق بمدى مصداقيتهم المتصورة ومدى ثقة الأخيرة حيالهم؛ وجد «المسح»، أنه رغم أن الولايات المتحدة تعتبر ظاهريًا أقرب حليف للمملكة بنسبة (42%)، فإن ألمانيا وفرنسا تتقدمان عليها من حيث معيار الجدارة بالثقة وممارستهما لأدوارهما الدولية. وحازت «برلين»، على إجماع نسبته 63%، و«باريس» 55%، و«واشنطن»، بنسبة 51% خلفهما. وبالنسبة للدول الأوروبية، يتضح عدم الارتياح حيال «واشنطن» أيضا. ووجد «صندوق مارشال الألماني»، في يونيو2021، أن التصورات الألمانية حول مدى الموثوقية بواشنطن عبر أوروبا كانت «مختلطة»، ووصلت إلى 51% لدى المواطنين الألمان. وفي المقابل، اعتبر «الصندوق»، أن كلا من «فرنسا وإسبانيا وهولندا والسويد وتركيا»، يرون ألمانيا «الشريك الأكثر موثوقية» لدى أوروبا.
وفي مارس 2022، أشارت مؤسسة «جالوب» لاستطلاعات الرأي، أن الأمريكيين يعتبرون «كندا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، واليابان»، حلفاءهم الأكثر موثوقية، بينما حصلت «الصين» على تصنيف نسبته 20% فقط. وبالمثل، سجلت «المجموعة»، انعدام ثقة البريطانيين في الصين بنسبة 81%. وأشارت إلى أن «الغالبية العظمى منهم لا يثقون بمدى مسؤوليتها في أداء دورها الدولي». في حين أن 9% فقط منهم «يثقون بها لأقصى درجة». ومع ذلك، أوضحت «جاستون»، أن «أعلى مستويات انعدام الثقة ذهبت لروسيا». وأعرب 91% عن عدم ثقتهم بموسكو، بينما 5% فقط أعربوا عن ثقتهم الكاملة فيها. وبالنسبة لكل الأطياف السياسية، تم تسجيل مستويات عالية من عدم الثقة، حيث إن 94% من الناخبين المنتمين للمحافظين، و92% من الناخبين المنتمين لحزب العمال والديمقراطيين الليبراليين، ليس لديهم أدنى ثقة في نظام «بوتين». وقدرت «المجموعة» أيضًا أن 45% من البريطانيين يعتقدون الآن أن «بكين، وموسكو»، «خصمان خطيران بنفس الدرجة» للمملكة المتحدة.
وفيما يتعلق بالمخاوف التي قد تستهدف الأمن القومي البريطاني، وجدت «المجموعة»، أن أبرز التهديدات الأمنية التي تم إثارتها؛ هي «تغير المناخ»، و«الأعمال الإرهابية»، و«القوة الصاعدة للصين». وفي المقابل، وجدت دراسة لمركز «بيو» للأبحاث في يونيو 2022، أن «الهجمات الإلكترونية»، و«المعلومات المضللة عبر الشبكة العنكبوتية»، يُنظر إليها على أنها التهديدات الأكثر خطورة للأمن القومي الأمريكي بنسبة (71% و70% على التوالي)، تليها مخاوف بشأن توسع نفوذ الصين (67%)، والعدوان الروسي (64%).
ووفقًا لوجهات النظر البريطانية تجاه قضايا السياسة الخارجية خلال المسح؛ أشارت «جاستون»، إلى «التحولات الجذرية، وتراجع الأدوار، والمواقف الدولية للولايات المتحدة»، و«النفوذ المتزايد للصين»، فضلاً عن «شبح الغزو الروسي لأوكرانيا»؛ على أنها سيكون لها «عواقب وخيمة على الأمن الأوروبي والعالمي».
وفيما يتعلق بالمواقف العامة تجاه الاعتراف بـ«فوائد العولمة» لدى البريطانيين، اكتشفت «المجموعة»، أنه قد «انخفض بشكل كبير»، وأنه بات «لا يوجد إجماع واضح» على أفضل طريقة للتعامل مع أزمة «الهجرة» من المنظور البريطاني». واستنادًا إلى ذلك، فإنه فيما يتعلق بدعم برامج التنمية الدولية، وُجد أن 34% من البريطانيين يعتقدون أن التزامات المملكة المتحدة بالتنمية الدولية -والتي تم تقليصها خلال جائحة كورونا- يجب أن تظل كذلك، بينما يرى 24% آخرون أنه يجب استعادة تمويلها عندما تصل الموارد المالية البريطانية «لمستوى ما قبل الوباء».
ورغم أنه يجب ملاحظة أن نتائج المسح قد تم تجميعها قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، إلا أن «جاستون»، استشهدت به باعتباره «حدثًا مهمًا سيعكس معالم الرأي العام فعليًا»، حيث أكدت في معاييرها التقييمية على تحليل آراء البريطانيين «عند مواجهتهم بالعديد من المفاضلات والخيارات الافتراضية حال وقوع الغزو». وسجل 37% من المواطنين وجهة نظر مفادها أن «دعم المملكة المتحدة لأوكرانيا سيكون له تأثير إيجابي على سمعتها العالمية». وبينما أُشير إلى أن 17% ينظرون إلى هذا الدعم باعتباره «أمرا سلبيا»، فإن 27% «غير متأكدين من نتائج جدوى هذا الدعم». وبالنهاية، تم تصوير البريطانيين على أنهم «متشككون إزاء المشاركة العسكرية»، واقتصار الدعم العسكري إلى حد كبير على الرد على أية «هجمات مباشرة على الأراضي أو المنشآت البريطانية».
وتعكس هذه الأرقام «دعمًا صريحًا» لمساعدة أوكرانيا، لكنها تعكس «إحجامًا» عن المشاركة العسكرية المباشرة في أية مناطق نزاع غربية بأي حال من الأحوال. وفي مايو 2022، أشار مركز «بيو» للأبحاث، إلى أن قرار إدارة «بايدن» بإرسال أسلحة إلى الأوكرانيين، قد حصل على «دعم قوي» رغم الانقسام السياسي الأمريكي، حيث وافق 71% من الأمريكيين على هذا الدعم، و31% آخرين أكدوا أن «واشنطن»، يجب أن تقدم المزيد للمساعدة دون أدنى تدخل مباشر. وفي أوروبا، وجد استطلاع رأي أجراه «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أنه في حين أن «الأوروبيين يشعرون بتضامن كبير مع أوكرانيا»، و«يدعمون العقوبات ضد روسيا»؛ إلا أن هناك انقسامًا متزايدًا بين أولئك الذين يرغبون في رؤية نهاية حتمية للصراع في أقرب وقت ممكن، (بنسبة بلغت 35%)، وأولئك الذين يسعون لتأمين هزيمة موسكو عسكريًا (25%).
على العموم، في ضوء المسح الذي أجرته «مجموعة السياسة الخارجية»، من الواضح أن العام الماضي قد شهد انخفاضًا في اهتمام الرأي العام البريطاني بالشؤون الخارجية، وازدادت نسبة هذا الانخفاض حاليًا. وبما أن هناك نظرة عامة مفادها أن مثل هذا الاهتمام بات يتراجع في جميع أنحاء العالم الغربي، فإن السؤال الذي يفرض نفسه يتعلق بما يمكن فعله لتعزيز الاهتمام العام بالشؤون الخارجية.
ولمعالجة هذا الأمر، أشارت «إلين ديلين»، و«كريستين لورد»، من «صندوق مارشال الألماني»، أن «المساعي الدبلوماسية ستكون أداة ضرورية في توليد الدعم لمواجهة التحديات الدولية المشتركة الراهنة»، وأنه «يجب على السفارات الأوروبية باختلافها إبقاء مواطنيها على اطلاع بتلك التحديات والتهديدات التي نواجهها»، وكذلك يجب «تعزيز آليات البث الخارجي والمحطات الإذاعية التي ترعاها الولايات المتحدة ودول أخرى حول جودة وصحة الأخبار والمعلومات والتحليلات المتعلقة بالأحداث والقضايا الدولية. علاوة على ذلك، لا ينبغي تجاهل التهديدات المرتبطة بحملات التضليل المتعمدة من قبل دول أجنبية حول قضية ما، ومن الضروري حث الحكومات الغربية على التعاون من أجل «تقليل المعلومات المضللة»، والتي يمكن أن تؤثر سلبًا على التصورات العامة حيال العديد من القضايا الدولية.
ومع تطور الصراع إلى حرب استنزاف، وعدم وجود قوة عسكرية كافية لأي من الطرفين لإزاحة الآخر؛ اتخذت التداعيات السياسية والاقتصادية للحرب بعدًا عالميًا. وبالإضافة إلى أزمة الغذاء الرئيسية التي سببها حصار الموانئ الأوكرانية، أثر ارتفاع أسعار الطاقة في المستهلكين الأوروبيين. وفي حين لا يزال هناك قدر من التعاطف مع الأوكرانيين، لاحظ «إيفان كراستيف»، و«مارك ليونارد»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «الرأي العام الأوروبي آخذ في التحول»، وأن هناك انقساما بين أولئك الذين «يريدون إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن»، (معسكر السلام)، و«الذين يريدون الاستمرار في القتال حتى هزيمة روسيا» (معسكر العدالة).
وانعكس هذا التقسيم على المستوى الرسمي، حيث التزمت ألمانيا وفرنسا، بالتواصل مع موسكو، في حين تتبنى «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، هزيمة روسيا الاستراتيجية. وبالتالي، يهدد هذا الوضع بتقويض الرد الغربي الموحد ضد العدوان الروسي، فضلاً عن ترك استمرار هذا الصراع وعواقبه السلبية العديدة من دون معالجة.
وتتناقض الاختلافات السياسية الحالية مع الاستجابة الغربية الموحدة لاندلاع الصراع. وأشار «كراستيف»، و«ليونارد»، إلى أن الأوروبيين «فاجأوا بوتين وأنفسهم بوحدتهم وحسمهم». وتمثلت القوة الدافعة للموقف الأوروبي في «غضبها من العدوان الروسي وانبهارها ببسالة المقاومة الأوكرانية». وعلى الرغم من أن «أورسولا فون دير لاين»، رئيسة المفوضية الأوروبية، أشارت إلى أن «بروكسل»، تريد للأوكرانيين «العيش معنا بالحلم الأوروبي»، إلا أن التكاليف الاقتصادية المتزايدة لهذه الحرب على القارة تؤثر في مدى استعداد بعض الدول لانتظار هزيمة روسية، بدلاً من السعي نحو حل دبلوماسي، حتى لو تطلب ذلك تنازلات أوكرانية.
وأوضحت «ديان فرانسيس»، من «المجلس الأطلسي»، أن الدول الأوروبية «تشعر بآثار إمدادات الطاقة وطوفان اللاجئين الأوكرانيين منذ بدء الغزو». وفي ردها على العقوبات الاقتصادية الغربية، قامت «روسيا»، بتخفيض خط أنابيب الغاز نوردستريم إلى 40% من طاقته. وأشارت وكالة «بلومبرج»، إلى أن صادرات الغاز إلى «ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا»، تم «تقييدها». وأكدت مديرة الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة، «أفريل هينز»، أن «بوتين»، لا يزال «يعتمد على عزم واشنطن وبروكسل على التراجع»؛ من خلال تفاقم «نقص الغذاء، والتضخم، وأسعار الطاقة».
وتباينت ردود أفعال الدول الغربية تجاه هذا الوضع. ففي حين قال رئيس الوزراء البريطاني، «بوريس جونسون»، إن الغرب بحاجة إلى «تجهيز نفسه لحرب طويلة»، ومواجهة محاولات بوتين «تدمير أوكرانيا»؛ واصل قادة فرنسا وألمانيا، الحوار المباشر مع «بوتين». وأشار المستشار الألماني «شولتز»، إلى المحادثات مع الرئيس الروسي، بأنها «ضرورية للغاية»، وأصر على أنه و«ماكرون»، سيمضيان قدما فيها. وعلق رئيس الوزراء الإيطالي، «ماريو دراجي»، بأن شعبه «يريد وضع حد لهذه المذابح»، وتسهيل «مفاوضات ذات مصداقية».
ومع ذلك، قوبل هذا النهج بانتقادات من قبل المراقبين الغربيين، حيث وُصف بمحاولة «التهدئة»، وإضفاء الشرعية على نظام يخوض حربًا غير مُبررة. وعلى وجه الخصوص، تم توجيه اللوم إلى «ماكرون» في أوائل مايو عندما حث القادة الغربيين على عدم إذلال «موسكو»، خشية تقويض شروط المفاوضات «اللاحقة». وأشارت «كاتيا هوير»، في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى الكيفية التي «بدأت بها برلين وروما» في تقويض العقوبات ضد روسيا «من خلال السماح لشركات الطاقة بإجراء عمليات شراء بالروبل، وبالتالي اعتبار «سياسة القادة الأوروبيين غير مدروسة».
من جانبه، أشار «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، إلى أن مواقف الأوروبيين تجاه المناقشات مع «موسكو»، لإنهاء الحرب، تعكس بشكل كبير الآراء العامة في جميع أنحاء القارة، حيث وجد أن 35% من الأوروبيين يريدون «إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن»، مقارنة بـ25% يعتقدون أن معاقبة موسكو على عدوانها يبقى «الهدف الأكثر إلحاحًا». وبينما تُظهر البيانات أن الأوروبيين يلومون روسيا بأغلبية كبيرة على الحرب (73%)، تم الكشف عن أن 52% من الإيطاليين، و49% من الألمان، و41% من الفرنسيين يسعون الآن إلى أسرع نهاية ممكنة للحرب.
علاوة على ذلك، بينما لا يزال الألمان يؤيدون بشكل عام، إرسال مساعدات عسكرية إضافية إلى أوكرانيا (52%)؛ يرى 45% فقط من الإيطاليين نفس الشيء. ويشير كل من «كراستيف»، و«ليونارد»، إلى أن القضية الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى أوروبا، فيما يتعلق بالصراع، هي ارتفاع أسعار الطاقة»، وبالتالي، »ما لم يتغير شيء بشكل جذري»، فإن الأوروبيين «سيعارضون استمرار أمد الحرب».
وفي تناقض واضح مع هذا، وجد «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «بولندا»، كانت الدولة الوحيدة في أوروبا، التي لديها نسبة أعلى من المواطنين ترغب في معاقبة روسيا. كما وجد أيضًا أن 77% من البولنديين «يريدون قطع جميع العلاقات الاقتصادية مع موسكو، وأن 78% يؤيدون «إرسال أسلحة إضافية إلى أوكرانيا»، وهو مستوى أعلى بكثير من المتوسط القاري.
وفي ضوء هذه الانقسامات، حذر «كراستيف»، و«ليونارد»، من أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن «يتعطل بسبب انقساماته الخاصة»، وأن التقاعس عن العمل في وقت أزمة كبيرة، يمكن أن يؤدي إلى «تهميش دائم لأوروبا على المسرح العالمي». وبسبب هذا الخطر المتزايد، حثا الدول الأوروبية على إيجاد «آلية جديدة» من أجل «تعزيز الوحدة، وتجنب تزايد حدة الاستقطاب بينها.»
من ناحية أخرى، تتمسك «واشنطن»، و«لندن»، بتزويد «كييف»، بالدعم الذي تحتاجه للتصدي للعدوان. ورغم تأثر البلدين بارتفاع أسعار الطاقة؛ إلا أنهما استطاعا أن يكونا أقل اعتمادًا على صادرات الغاز الروسي، وبالتالي أكثر استعدادًا لمواصلة العقوبات الاقتصادية ضدها. وحتى الآن، قدمت «واشنطن»، لأوكرانيا 54 مليار دولار من المساعدات، منها حوالي 20 مليار دولار مساعدات عسكرية. وصرح وزير الدفاع الأمريكي، «لويد أوستن»، أن بلاده تريد أن ترى «روسيا دولة ضعيفة حتى لا تستطيع تكرار ما حدث في مكان آخر». وأوضحت «فيليسيا شوارتز»، و«آمي كازمين»، في صحيفة «الفاينانشيال تايمز»، أن «هناك حالة من عدم الوضوح حول ما تعتقد واشنطن أن بإمكانها تقديمه لأوكرانيا»، كما «لا يوجد أية إيضاحات حول آليات فرض الهزيمة الاستراتيجية لروسيا على أرض الواقع»، ناهيك عن «عدم معرفة أي نوع من التنازلات، التي قد تدفع الولايات المتحدة «كييف»، إلى قبولها».
علاوة على ذلك، هناك انقسامات بين «واشنطن»، و«لندن»، حول مقدار الدعم الذي يجب أن تحصل عليه أوكرانيا. وأشارت «شوارتز»، و«كازمين»، إلى أن الأمريكيين يشعرون بالانزعاج «من اللهجة الحادة» التي وجهتها لندن إليهم لتقديم المزيد من المساعدة لأوكرانيا». وأوضح «جيريمي شابيرو»، من «المجلس الأوروبي»، أن البريطانيين «يتقدمون على الأمريكيين بعض خطوات في هذا الصدد». ووجد استطلاع رأي نشره «المجلس الأوروبي»، حول حرب أوكرانيا، أن 22% فقط من البريطانيين يميلون إلى معسكر «السلام»، الذي يسعى إلى إنهاء الحرب، «حتى لو كان ذلك يعني تقديم أوكرانيا تنازلات. واستمرارًا لهذه الحجة، تم حث العديد من قادة الغرب على استمرار دعم «كييف». وشدد الأمين العام لحلف الناتو، «ينس ستولتنبرغ»، على أن أوروبا «يجب ألا تتخلى عن دعمها لها»، مؤكدًا أن «ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء»، لا يُقارن «بالخسائر التي تتكبدها يوميًا جراء تلك الحرب».
وأشار «تشارلز كوبشان»، من جامعة «جورج تاون»، إلى أن الحل التفاوضي للصراع، هو «الخيار الصائب الذي يجب أن يتحقق عاجلاً وليس آجلاً»، واصفًا الحجة القائلة بأن الهزيمة الحاسمة لروسيا فقط، هي التي ستردع أي مخطط لشن عدوان مستقبلي تجاه أي دولة، بأنها «حجة خاطئة تمامًا»، «تعرقل المساعي الدبلوماسية». وبما أن «بوتين»، «على استعداد للبقاء في السلطة»، فإنه «لا يهمه انتهاء هذه الحرب». لذلك، أكد أن «من الحنكة الاستراتيجية»، اللجوء إلى «التهدئة»، وأنه «يجب على كييف التفاوض وبدء عملية سلام تهدف إلى إبرام تسوية إقليمية».
في مقابل ذلك، أشارت «آن أبلباوم»، في مجلة «ذي أتلانتيك»، إلى أن روسيا لم تهتم بالمعاهدات المتعددة التي تلتزم نظريًا بها»، بما في ذلك اتفاقية «جنيف لأسرى الحرب»، وبالتالي، فإن «أية تسوية لن تنهي العدوان أو بإمكانها إحلال السلام الدائم»، موضحة أن أي مفاوضات توصي بمنح الأراضي المتنازع عليها لموسكو معناها «مكافأتها على غزوها» من دون أدنى رد.
وكتب «ستيفن بلانك»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، أن «موجات التعاطف الغربية الأخيرة مع بوتين»، تعد «مؤشرًا» على استمرار حالة التردد الدولية، كما أنها إشارة إلى الفشل الغربي في فهم الطبيعة الحقيقية للحرب الحالية». وبالتالي، فقد اعتبر أن «استرضاء روسيا لن ينهي الحرب أو يؤمن فرصة لاستتباب السلام»، لكن بدلاً من ذلك، فإن التنازلات الإقليمية الأوكرانية لن تؤدي إلا إلى «تقوية شوكة بوتين»، و«إضعاف الغرب». وأوضح «بول نيلاند»، من «المجلس الأطلسي»، أنه بعد تدمير البلدات والمدن الأوكرانية، «لا يمكن أن يكون هناك المزيد من الأوهام فيما يتعلق بإمكانية التوصل إلى سلام مع بوتين».
ولعل الأهم من ذلك، أن الحلول الغربية لهذا الصراع، يجب أن تأخذ في الاعتبار أيضًا موقف روسيا نفسها. ورغم إشارة «صامويل شاراب»، من مؤسسة «راند»، أن «روسيا سوف تضعف قواها بغض النظر عما قد يحدث في الحرب»، وأنها ستكون «معزولة، وفقيرة»، و«محاطة بمزيد من دول الناتو»؛ لم تظهر موسكو أي علامة على التحرك نحو أية مفاوضات أو تسوية سلمية. وبدلاً من ذلك، ضاعف «بوتين»، من خطابه المعادي للغرب والتزامه بالحرب. وخلال قمة «منتدى سان بطرسبورج الاقتصادي الدولي»، صرح بأن بلاده ستخرج «أقوى» من الحرب، وستكون قادرة على تجاوز جميع العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها، وأن «بروكسل»، «فقدت سيادتها السياسية تمامًا.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الحرب تحظى بشعبية في روسيا. ووجدت دراسة أجراها «مركز ليفادا»، أن نسبة التأييد لغزو أوكرانيا بلغت 77% بين الروس في مايو 2022. ووصف «بيتر ديكنسون»، من «المجلس الأطلسي» هذه الأرقام، بأنها «أخبار محبطة لانعدام أي ردود فعل عنيفة داخل روسيا حيال استمرار الحرب». وبدلاً من التسبب في ضغوط داخلية للانسحاب أو السعي للتوصل إلى اتفاق سلام، أشار إلى أن استطلاعات الرأي تُظهر أن «غالبية الروس قد قبلوا ظروف الحرب اليوم باعتبارها وضعا طبيعيا».
على العموم، رغم أن حرب أوكرانيا قد تطورت إلى حرب استنزاف لا تحسمها الآلة العسكرية، لا يمكن التقليل من تطور الوحدة الغربية تجاه ضرورة إنهائها. ولعل ما يفاقم الوضع الراهن كون الرأي العام الأوروبي منقسما، إزاء التعامل مع الحرب، إلى جانب تصدي «بوتين»، للعقوبات الغربية والضغوط السياسية، وإصراره على الصمود والخروج من الحرب أقوى مما كان عليه.
وكما أوضح «شوارتز»، و«كازمين»، فإنه في حين يؤكد القادة الغربيون أن «القرارات النهائية لإنهاء الحرب تقع على عاتق أوكرانيا»، فإن قدرة الأخيرة على المقاومة فترة طويلة، تعتمد على «السلاح والمال»، التي تتلقاهما من «أمريكا». وفي ضوء مواصلة «واشنطن»، دعمها القوي لأوكرانيا عسكريًا ودبلوماسيًا، فإنها في وضع أفضل لممارسة الضغط عليها للموافقة على أي تسوية مستقبلية. ولعل هذا الأمر، هو عنصر آخر من المرجح أن يضعف الوحدة الأوروبية إزاء هذه الأزمة.