7/7/2022
تأثير اتفاقيات التجارة على المنافسة في الشرق الأوسط
مع إعادة صياغة المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، والخطط الأمريكية لإعادة علاقاتها مع حلفائها الخليجيين، وتصاعد التوترات الإقليمية بشأن طموحات إيران النووية، والتداعيات الإقليمية المستمرة للحرب في أوكرانيا على أسعار الطاقة وانعدام الأمن الغذائي؛ أولى المراقبون الغربيون اهتماما متزايدا، باتفاقيات التجارة الحرة والشراكة الاقتصادية بين دول المنطقة والقوى الخارجية، وخاصة من خلال إلغاء التعريفات الجمركية على السلع الأساسية، وفتح أسواق جديدة للتجارة الدولية، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين آفاق التعاون في القضايا العالمية وتقليل المنافسة.
وبشكل خاص، يظهر نهج إعطاء الأولوية للنشاط التجاري في دول الشرق الأوسط مع جهات خارجية، فيما تقوم به الإمارات؛ ما يعزز وجهة النظر القائلة بأن تراجع الدور الأمريكي عن المنطقة، دفع بكين، لتقويض الدور السياسي والأمني التقليدي لواشنطن في الخليج. وكما أوضح جوناثان فولتون، من المجلس الأطلسي، فإن مثل هذه النظرة لا تأخذ في الحسبان تأثير الصفقات التجارية على الاعتبارات الجيوسياسية لدول المنطقة، فضلاً عن حقيقة أن واشنطن وبكين ليستا الفاعلين الوحيدين اللذين يسعيان إلى تعزيز علاقاتهما الاقتصادية والسياسية مع دول المنطقة.
وفي حين أن ديناميكيات العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا تعزز المنافسة الاستراتيجية على الساحة الدولية، ومع تأكيد حرب أوكرانيا على الهوة الهائلة بين رؤية واشنطن للنظام العالمي، ورؤية بكين وموسكو من ناحية أخرى؛ فإن التركيز على مثل هذه الديناميكيات يراه فولتون، يهدد ما أسماه نرجسية القوى العظمى، التي تتباين نظرة قادتها إلى بلدان العالم. وتفسيرًا لهذا المفهوم، أوضح أنه في حين أن بكين، وواشنطن، تسعيان إلى تأكيد نفوذهما في مناطق مختلفة بالعالم؛ فإن بقية المجتمع الدولي يرى أن النظام الدولي الهش، معرض للخطر، ما يهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي العالمي.
واستكمالا لذلك، رأى أن تفضيل دول الشرق الأوسط لإحدى القوتين العالميتين، سواء أمريكا أو الصين، جيوسياسيًا، يعد أمرا غير عملي. ففي الوقت الذي تتمتع فيه دول الخليج بعلاقات سياسية وأمنية طويلة الأمد مع واشنطن، تعتبر بكين أيضًا أكبر شريك تجاري لها. ووفقًا لـ«كاثرين شاير»، من شبكة دويتشه فيله، فإن السعودية تصدر حوالي ربع إجمالي صادراتها النفطية إلى الصين. وفي عام 2020، بلغ إجمالي الواردات والصادرات بينهما 67 مليار دولار. في حين تبلغ قيمة تجارة الإمارات معها حوالي 75.6 مليار دولار- وهو رقم وصفه فولتون، بأنه مثير للإعجاب -، تليها الهند، 61 مليار دولار، واليابان 37 مليار دولار.
وعلى النقيض من ذلك، أشار إلى أن واشنطن، تعاني من التصور السائد في الشرق الأوسط بأنها تركز فقط على القضايا الاستراتيجية والأمنية، وتتعامل مع الدول الأخرى كرد فعل على المنافسة مع الصين، بدلاً من مساعدة التنمية الاقتصادية لشركائها. وعلى عكس العلاقات الاقتصادية الخليجية مع آسيا، بلغ إجمالي التجارة بين الولايات المتحدة والإمارات 24.3 مليار دولار عام 2019، حيث احتلت الأخيرة المرتبة الثامنة عشرة في قائمة أكبر أسواق التصدير لواشنطن، كما احتلت المرتبة 52 فقط من بين أكبر موردي السلع لها.
وفي مقابل تركيز واشنطن، و بكين، على التنافس الاستراتيجي في الشرق الأوسط؛ أشار فولتون، إلى اهتمام دول المنطقة بدلا من ذلك بالقضايا الاقتصادية والتنموية، بعيدا عن الاعتبارات الجيوسياسية، تأكيد لمقولة أن زيادة التجارة تبني رأس المال السياسي وتقود علاقات أعمق. وفي حين أن الاستثمار والمنافسة أمران جيدان، لأنهما يخلقان المزيد من الثروة والخيارات، فإن تركيز واشنطن على اصطفاف البلدان ضد بكين عالميًا، يمثل إشكالية باعتبار أن هذا الأمر من الصعب تحقيقه عندما لا ترى العديد من الدول نفس النظرة السلبية اتجاه بكين.
وفي واقع الأمر، تولي دول الشرق الأوسط، أولوية متزايدة للتجارة بعيدا عن الاعتبارات الجيوسياسية، ويبرز ذلك من خلال توقيع اتفاقيات التجارة الحرة (FTAs)، واتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، بين دول المنطقة والاقتصادات الخارجية، والتي يراها فولتون، تساهم في الاستقرار والازدهار على مستوى العالم. وبشكل خاص، تأتي الإمارات في طليعة هذه الجهود. وكتب سيميون كير، وبنجامين باركين، في صحيفة فاينانشيال تايمز، أن أبوظبي، تنظر إلى التجارة على أنها جزء أساسي في دفع اقتصادها بعيدًا عن النفط. مستشهدين باستخدام شراكات اقتصادية شاملة لمضاعفة حجم اقتصادها من 381 مليار دولار، إلى 762 مليار دولار بحلول عام 2030.
وبالمثل، وقعت الإمارات، أول اتفاقية تجارة حرة كبرى مع الهند في فبراير 2022، والذي أوضح المراقبون أنها من الممكن أن تزيد التجارة بين البلدين من 61 مليار دولار إلى 115 مليار دولار في غضون خمس سنوات، حيث سيتم إزالة التعريفات الجمركية على ما يقرب من 80% من المنتجات والخدمات، بما في ذلك المفروضة على تجارة المعادن.
علاوة على ذلك، تجري أبوظبي، مناقشات مع العديد من الدول الأخرى. وأشارت صحيفة فاينانشيال تايمز، إلى اتفاقية التجارة الحرة المقترحة بين كوريا الجنوبية، ومجلس التعاون الخليجي، والمحادثات بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع إندونيسيا. وبعيدا عن آسيا، أشار ألكسندر كورنويل، وفرانسيسكا نانجوي، من وكالة رويترز، إلى الكتلة التجارية لمجموعة شرق إفريقيا (EAC) -التي تضم في عضويتها كينيا وتنزانيا وأوغندا وبوروندي ورواندا وجنوب السودان- كمرشح مستقبلي لتوقيع اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة مع الإمارات.
وهناك جانب آخر مهم لاتفاقيات التجارة الحرة، كونها تفتح أسواقًا جديدة للبلدان وتزيد تأثيرها. وعند توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الهند والإمارات، أشادت وزيرة مالية نيودلهي، نيرمالا سيترامان، بأبوظبي باعتبارها مدخلا للاتحاد الإفريقي بأكمله والشرق الأوسط.
وفي إشارة إلى اتفاقية التجارة المستقبلية بين كوريا الجنوبية والإمارات، أوضحت كيم سو وان، من جامعة هانكوك، أن الشركات الكورية ستكون قادرة على كسب وزيادة حصتها في ذلك السوق المتعطش بالمنطقة.
ومع ذلك، يجب التأكيد على أن الاعتبارات الجيوسياسية تتداخل أيضًا مع الاعتبارات التجارية، لا سيما في مجالات الأمن والدفاع. وأشار فولتون، إلى أن انهيار المحادثات بين واشنطن وأبو ظبي بشأن شراء طائرات اف 35 في ديسمبر 2021؛ تلاه إعلانها في فبراير 2022، عن شراء طائرات إل-15 الصينية، وهو ما وصفه بأنه مهم؛ لإظهار أن لديها خيارات في جهودها لتنويع مصادرها من الأسلحة.
وتُفسح مثل هذه الخيارات المجال أمام المعلقين للإشارة إلى المنافسة العالمية بين واشنطن، وبكين، في الشرق الأوسط، على الرغم من أنه من المهم ملاحظة أن هذا لا يعني أن دول الخليج نفسها تختار جانبًا. وفي أكتوبر 2021، أشار المستشار الرئاسي الإماراتي أنور قرقاش، إلى أن فكرة الاختيار مشكلة في النظام الدولي، حيث تعتبر واشنطن هي شريكنا الاستراتيجي، غير أن الصين مع الهند هي الشريك الاقتصادي الأول أو الثاني لبلادنا. وبالتالي، حذر من أن المنافسة الاستراتيجية الأمريكية الصينية تجبر الدول على اتخاذ خيارات مستحيلة.
لكن الأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة والصين، ليستا القوتين الوحيدتين في تجارة الأسلحة بالمنطقة. وأشار فولتون، إلى أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى الإمارات في ديسمبر 2021، أسفرت عن صفقة بقيمة 19 مليار دولار لشراء ثمانين طائرة مقاتلة من طراز رافال، واثنتي عشرة مروحية نقل عسكرية من طراز كاراكال، والتي كانت أكبر عملية بيع من هذا النوع تقوم بها فرنسا على الإطلاق. في يناير 2022، وقعت كوريا الجنوبية صفقة بقيمة 3.5 مليارات دولار مع الإمارات؛ لبيع صواريخ تشونغونغ 2 أرض جو. وهكذا، خلص إلى أن ثنائية منافسة القوى العظمى تفتقد الدور المهم الذي تلعبه القوى الأخرى.
وفيما يتعلق بأدوار بكين، وواشنطن، في انتشار اتفاقيات التجارة الحرة في الشرق الأوسط، أكد فولتون، أن البيئة السياسية المحلية في الأخير، تجعل تحقيق الصفقات التجارية أمرا صعبا، حيث مثّل انسحابها من الشراكة عبر المحيط الهادئ عام 2017، كارثة دبلوماسية. في المقابل، أوضح روي يلينك، من معهد الشرق الأوسط، أن الزيارة التي قام بها وفد من مسؤولي مجلس التعاون الخليجي إلى الصين في يناير 2022؛ بهدف البحث عن علاقات أوثق مع بكين أثارت بالفعل احتمالية توقيع اتفاقية للتجارة الحرة بينهما، وهو الاقتراح الذي صدر لأول مرة في عام 2004.
على العموم، فإن تحليل الخبراء الغربيين لأهمية التجارة كأداة للتعاون بين الخليج وبقية العالم، يجب ألا يستبعد أن المنطقة مسرحا لتنافس القوى العظمى. وأشار يلينك، إلى أن بكين، استقبلت من دول الشرق الأوسط، وزراء خارجية بدلاً من نظرائهم في وزارات التجارة أو الاقتصاد، وهو ما يشير إلى تحول في التركيز من التجارة والاقتصاد، إلى الجغرافيا السياسية.
ومن المهم أيضًا النظر في علاقات الصين مع إيران، لا سيما اتفاقية التعاون التي مدتها 25 عامًا، والموقعة عام 2021، حيث وصفها يلينك، بأنها جانب رئيسي من العلاقة المستقبلية بين الدولتين. وإقرارًا بذلك، خلص فولتون، إلى أن رؤية واشنطن أحادية البعد لدور بكين التجاري في المنطقة تأتي بنتائج عكسية، وأنه من الأفضل لصانعي السياسة الأمريكيين أن يدركوا أن الكثيرين، بما في ذلك دول الشرق الأوسط، لديهم وجهة نظر مختلفة حول الصين. وبدلاً من ذلك، حث واشنطن، على الاستفادة من شركائها وحلفائها الحاليين في جميع أنحاء العالم كمعزز للقوة؛ لخلق فرص ونفوذ عندما تعيق السياسة الداخلية الأمريكية قرارات مهمة على صعيد السياسة الخارجية.