top of page
1/6/2019

حلف «الناتو» في عامه السبعين.. ثغرات حرجة في قدراته الدفاعية

وافق شهر أبريل 2019 الذكرى السبعين لتأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي نشأ عام 1949، في محاولة لمنع توسع الاتحاد السوفيتي في القارة الأوروبية. واليوم، بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1990 تخطى الحلف مهمته لدعم الاستقرار في أكثر مناطق العالم اضطرابا؛ ليُشكل دعامة مهمة للبنية الأمنية العالمية، فى وقت تزايدت فيه المخاوف من انهياره وتفككه في ظل تهديدات وتحديات واجهته فى السنوات الأخيرة.
وفي هذا الإطار، صدر تقرير عن «المجلس الأطلسي»، بواشنطن، يوم 4 أبريل، تحت عنوان «الناتو في عامه السبعين.. الثغرات الحرجة في القدرة الدفاعية»، أعده «وين شرودر» من «معهد السياسة العالمية»؛ بهدف عرض التحديات التي يواجهها الحلف في الوقت الراهن، والتي لا تنذر بحرب باردة جديدة فحسب، بل اكتمال حزام الأزمات حول مناطق النفوذ الاستراتيجي له.
ويجمع كثير من المراقبين على أن المخاطر الاستراتيجية التي تواجه الناتو وأوروبا حاليا هي الأكثر حدة ووضوحًا من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، مما يعني مستقبلا غامضا للحلف، من ذلك الفشل في تحديث قدرته الدفاعية والهجومية رغم تعدد عوامل التهديد، وهو ما يسميه «شرودر» «الثغرات الحرجة» و«نقاط الضعف»، والتي ينبغي سدّها من أجل مستقبل أفضل للحلف. 
بداية، تكمن إحدى هذه الثغرات في انقسام أولويات أعضاء الحلف، فدول جنوب أوروبا، بما في ذلك تركيا وإيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال، لم تعد تواجه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تهديدًا عسكريًا تقليديًا ملموسًا، فكانت أولوياتها الاستراتيجية الأكثر إلحاحًا هي مكافحة الإرهاب، نظرًا لقربها من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تشهد اضطرابات. في المقابل تختلف أولويات «الدول صاحبة اليد العليا»، بحسب «شرودر» مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا، والتي تعتبر كوريا الشمالية وإيران والصين الخطر الأول، بجانب النزاعات البعيدة مثل الحرب الناشبة بين الهند وباكستان. 
وقد أدى هذا التضارب في المصالح إلى الإضرار بالقوة العسكرية للمنظمة واستجابتها وسرعتها، وحيادها عن هدف الجاهزية للحروب التقليدية إلى أهداف أخرى، وهو ما يشكل مصدر قلق وخاصة مع عودة روسيا مؤخرًا إلى سيرتها الأولى وعملها مرة أخرى كقوة إقليمية حازمة وعدوانية وانتقامية. ويوضح «أنتوني كوردسمان»، من «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» بواشنطن، أن «الدول الأوروبية تحتاج إلى تعويض عن سنوات من الإنفاق والفشل في إعادة تشكيل قواتهم لمواجهة التحديات الجديدة التي تمثلها روسيا والإرهاب»، وخاصة في ضوء أن الدول الأوروبية «جنت ثمار السلام بشكل أكثر مما ينبغي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو عام 1991، كما خفضت من قواتها واستعداداتها، فيما فشلت في التحديث المطلوب». ويرتبط بهذا التحدي اختلاف أعضاء الناتو في رؤيتهم لموسكو كتهديد واضح، وذلك باستثناء الدول الأوروبية الشرقية (بولندا، ورومانيا، ودول البلطيق في إستونيا، ولتوانيا، ولاتفيا)، ما جعلهم يفتقرون إلى الدافع لتطوير قدراتهم الدفاعية والهجومية ضدها.
ولعل ما يزيد فعالية التهديات هو نقص التمويل، وهو ما كان مثار قلق في السنوات الأخيرة. وكنتيجة مباشرة؛ ظهرت فجوات في نشر قوات الحلف، مثلت نقطة ضعف استراتيجية رئيسية تواجهه، حتى إن الانتشار العسكري بشكل دوري، المتمثل في التمركز المؤقت للكتائب والقوات في بلدان غير آمنة مثل بولندا ورومانيا لن يستطيع بشكله الحالى منع أي غزو روسي لأوروبا حال قيامه، وهو ما ينطبق أيضًا على القدرات البحرية التقليدية للحلف، التي أُهملت طويلا لصالح التوجه نحو عمليات مكافحة القرصنة على نطاق ضيق في خليج عدن ومنطقة القرن الإفريقي. وهنا يؤكد «شرودر» أنه «للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة يرى الناتو إعادة ظهور السفن البحرية الروسية في شمال الأطلنطي وبحر البلطيق والبحر المتوسط، دون توافر إمكانيات تُذكر للردع».. فيما تعد قضية «تقاسم الأعباء» ذات تأثيرات بالغة، وخاصة في ظل الظروف الجيوسياسية التي تتفاقم في أوروبا. ويشير «تشارلز كوبشان»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أن «الدول الأعضاء اتخذت خطوات لتعزيز آلية الردع المُستخدمة منذ غزو روسيا لأوكرانيا عام 2014». وتجلى الهدف الأساسي من هذه الإصلاحات في تعهد جميع الأعضاء في قمة ويلز عام 2014 بإنفاق ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي على الدفاع لتعزيز القدرة العسكرية للحلف. وعلى الرغم من ذلك، فإن 7 دول فقط من أصل 29 دولة نفذت هدف الـ2%، من بينها الولايات المتحدة بنسبة (3.4%)، واليونان (2.2%)، والمملكة المتحدة (2.2%)، وكل من إستونيا وبولندا (2.1%)، وكذلك لاتفيا وليتوانيا (2.0%). فيما يعد أسوأهم لوكسمبورج (0.54%) وإسبانيا (0.94%) وبلجيكا (0.93%) وسلوفينيا (1.02%) وجمهورية التشيك (1.11%).
وتحتل الولايات المتحدة المركز الأول في نسبة الإنفاق العسكري بين دول الحلف، وتبلغ مساهمتها 3.5% من قيمة الناتج القومي الإجمالي. ووفقًا للأرقام التي نشرها «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، بلندن، أنفقت أمريكا حوالي 602.8 مليار دولار على الدفاع عام 2017؛ أي ما يُعادل 70.1% من الإنفاق العسكري الذي تُنفقه جميع الدول الأعضاء في الناتو، مضيفا أنه «لولا مساهمات واشنطن، لما تمّكن الأعضاء الباقون من ردع التقدم الروسي». وفي هذا الصدد، يقول «فابريس بوتييه»، من «المعهد الدولي الدراسات الاستراتيجية»: «لا يمكن إصلاح أكثر من 30 عامًا من الإهمال، بالاعتماد على الولايات المتحدة».
 وتتزايد المخاوف والتحديات التي تواجه الناتو بشكل كبير في ظل احتمالات انسحاب الولايات المتحدة من الحلف. ويوضح «جيمس ستافريديس»، في صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية، أن «تضاؤل رغبة واشنطن في توفير الضمانات الأمنية لأوروبا يعدّ من أكبر التحديات التي تواجه الحلف». وتنبع رؤية الرئيس الأمريكي من الاعتقاد بأن واشنطن تُهدر مواردها في الدفاع عن أوروبا. وتشير صحيفة «ذي تايمز» البريطانية إلى أنه «منذ حملته الانتخابية عام 2016، واصل ترامب التشكيك في العقيدة الأساسية التي يقوم عليها الحلف، والتي تتمثل في المساعدة المتبادلة، الأمر الذي أثار المخاوف من انسحاب واشنطن منه»، وخاصة بعد أن وصفه بأنه «عفا عليه الزمن ولم تعد له حاجة». 
وربما تكمن الثغرة الأكثر خطورة في عالم «الحرب الهجينة»، وهي الحرب التي تُمثل خليطا بين الحرب التقليدية وغير النظامية والسيبرانية. وقد عرّف «جوشوا ستويل»، في مجلة «جلوبال سكيورتي ريفيو»، هذه الظاهرة بأنها «الحالة التي توظف فيها دولة ما قواتها العسكرية التقليدية وغير النظامية بجانب أساليب حروبها النفسية والاقتصادية والسياسية والإلكترونية». ووفق هذا المفهوم، فإن تعامل أمريكا الشمالية وأوروبا يعدّ بطيئا للغاية في صدّ العديد من الهجمات الداخلية من الصين وإيران وغيرهما. وقد فشل حلف شمال الأطلسي حتى الآن في تشجيع أي جهود للتصدي لهذا الشكل الجديد من الحروب، كما أن الناتو لم يضع استراتيجية متماسكة للمواجهة. 
ويوضح «نيكولاس بيرنز»، من مركز «بيلفر للعلوم والشؤون الدولية»، أن «ردع هجوم من نوع الحرب الهجينة، أو هجوم شبه تقليدي، يتطلب تحركًا عاجلاً، لكن الناتو يبدو ضعيفًا أمام الهجمات الإلكترونية». ولعل ما يعوق هذا الاستعداد لدى أعضائه أيضا هو تخوفهم من عمليات الترهيب عن طريق التهديد بقطع إمدادات الطاقة، والتآمر السياسي عبر وكلاء سرّيين وجماعات ممولة وحملات التضليل والتدخل المحتمل في الانتخابات الأوروبية.
وتمثل بكين التهديد الأكثر خطورة في عمليات التجسس السيبرانية والهجمات الإلكترونية التخريبية. وفي الآونة الأخيرة، ذاع صيتها على خلفية استخدامها الفضاء السيبراني لجمع معلومات استخباراتية ومهاجمة خصومها من خلال تقنيات وبرامح إلكترونية. ويوضح «إريك براتبرج»، من «معهد كارنيجي للسلام الدولي»، أن هناك تخوفا لدى أوروبا من أن مشروعات تطوير البنى التحتية التي تقوم بها الصين على الصعيد الدولي ستجعلها أكثر عرضة وخضوعًا لعمليات التجسس الصينية والهجمات السيبرانية الإلكترونية.
وكرد فعل حيال هذا التهديد المتنامي، يعمل الناتو على تطوير مستوى ونطاق دفاعاته السيبرانية. وفي هذا الصدد، يقول «جيمس ستافريديس» في مجلة «بوليتكيو» إن الناتو بات من أولوياته تحديث ترسانته الإلكترونية والبحرية وقواته الخاصة المعنية بهذين المجالين تحديدًا، وبالتالي سيقل التركيز على تطوير قدرات القوات البرية ومعداتها العسكرية ما لم تفرض التحديات الروسية الحادة واقعًا غير ذلك.
ويرى «شرودر» أن مواجهة نقاط الضعف والثغرات هذه تتطلب إصلاحًا مؤسسيًا واسعًا وشاملاً في المنظمة ضمن اتفاق جديد بين أعضائه، ومن أجل ذلك، يجب أولاً أن يكون هناك تغيير أساسي في نظرة معظم أعضائه تجاه التهديد الجيوسياسي الذي تمثله روسيا. ويتم ذلك عبر تعزيز الوضع العسكري تجاهها وتطوير قدرات دفاعية أكثر فعالية تدعم تخطيطا دفاعيا ذا استجابة أعظم في منطقة بحر البلطيق والبحر الأسود، فضلا عن تشجيع الاستثمارات العسكرية بشكل متقدم، وخاصة في مجال التكنولوجيا، ما ينعكس على الخدمات اللوجستية والقدرات الهجومية الإلكترونية والتقليدية للحلف. ولعل الافتقار إلى مثل هذا التنسيق والتطوير منذ نهاية الحرب الباردة هو ما أعطى الروس اليد العليا في التقدم التكنولوجي العسكري على نظرائهم الأوروبيين؛ بينما كانت الولايات المتحدة الاستثناء الوحيد فقط من حيث تفوق قدراتها. 
تقول «راشيل إلوهوس»، من مركز «الدراسات الاستراتيجية والدولية»، إنه «في السنوات الأخيرة تسارعت وتيرة تطوير الآليات التكنولوجية المستخدمة في البيئات القتالية المعقدة، وإذا ما أراد الناتو أن تتسم منظمته بالفاعلية، فمن الضروري أن يولي أهمية كبرى لتوسيع قدراته التكنولوجية من أجل التصدي للتقدم الروسي».
وختاما، فإنه بالتوافق مع المحللين، يؤكد «شرودر» أنه في الذكرى السبعين لتشكيله، يواجه الناتو مستقبلاً غامضًا، وبصرف النظر عن النجاح الذي حققه فيما مضى في صدّ الاتحاد السوفيتي، فإنه يبدو اليوم غير قادر، وإلى حد ما غير مستعد، لتعبئة وشحن قوته بشكل كافٍ ضد موسكو التي عاودت استعراض قوتها بشكل متزايد، ويبقى واضحًا أن نقاط الضعف الحرجة في قدرته الدفاعية قد تزايدت في السنوات الأخيرة، وهو ما يتطلب إصلاحا وتغييرا شاملا لتطوير قدراته الدفاعية. 

{ انتهى  }
bottom of page