21/9/2022
تحليل غربي لعمليات التجسس والاغتيالات والهجمات السيبرانية الإيرانية ضد أهداف غربية
في أغسطس 2022، تعرّض الكاتب سلمان رشدي لمحاولة اغتيال، في هجوم مُتعلق مباشرة بفتوى عام 1989 أصدرتها إيران بإهدار دمه؛ ردًّا على كتابه المثير للجدل "آيات شيطانية"، وذكّرت تلك المحاولة المراقبين الغربيين بهذا النوع من أعمال العنف المرتبطة بالنظام. وفي السنوات الأخيرة، سُجلت زيادة في مثل هذه المؤامرات والهجمات التي نفذت في الدول الغربية، حيث أوضح المحللون أنها تأتي انتقامًا من الغارة الجوية الأمريكية التي قتلت قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، أثناء زيارته العراق في يناير 2020.
وقد صعّد النظام والحرس الثوري الإيراني من استهدافهم المسؤولين الغربيين وشخصيات المعارضة السياسية الإيرانية، في مقدمة هذه الأعمال يأتي نمط محاولات الاغتيال. وكتب ماثيو ليفيت، زميل بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أن فكرة تجنيد النظام الإيراني لعملاء في الولايات المتحدة للتخطيط وتنفيذ هجمات عنيفة ضد كبار المسؤولين والشخصيات "تبدو رائعة جدًّا لدرجة يصعب تصديقها"، ومن بين أبرز محاولات الاغتيال الفاشلة التي قام بها عملاء إيرانيون يعملون في الولايات المتحدة خطط لاغتيال جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، ومايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي السابق. وفي أغسطس 2022، اتهمت وزارة العدل الأمريكية شهرام بورصافي، المواطن الإيراني وعضو الحرس الثوري الإيراني بمحاولة اغتيال بولتون، وهو من الصقور المتشددة في السياسة الخارجية والذي اشتهر بمعارضته الشديدة للحكومات المعادية لأمريكا في الشرق الأوسط.
وبالتزامن مع محاولات الاغتيال، تم القبض على إيرانيين مرتبطين بالنظام يقومون بأعمال مراقبة وتجسس. في عام 2019، أقر اثنان من الإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة بتهمة مراقبة أعضاء المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، وحضور فعاليات في نيويورك وواشنطن للقيام بذلك. في هذه الحالة أيضًا، أضاف ليفيت أن "العملاء الإيرانيين كانوا على اتصال منتظم مع مسؤول بالحرس الثوري الإيراني في إيران"، ما يدل على أن هذه "ليست عمليات مارقة بل مؤامرات بتوجيه من المسؤولين الإيرانيين".
وفسر البروفيسور أفشون أوستوفار، من كلية الدراسات العليا البحرية الأمريكية، سبب لجوء النظام الإيراني إلى مثل هذه الوسائل على الرغم من انخفاض مخاطر النجاح بشكل واضح، بأن طهران "تريد بشدة تحقيق شكل من أشكال الانتقام" لموت سليماني، لكن هذا "ما لم يتقنوه"، ومع كل فشل يذكرهم بنقاط ضعفهم بدلاً من ذلك. ومع ذلك، من الطبيعي أن يؤدي استمرار مثل هذه الهجمات إلى افتراض أن كفاءتها وقدراتها ستتحسن، مما يسلط الضوء على خطر أن تنجح إحدى المؤامرات أو أكثر في تحقيق أهدافها في نهاية المطاف. ويرى ليفيت أن طهران تعتبر الأسلوب الحالي "وسيلة فعالة من حيث التكلفة" لمحاولة إسكات المعارضة محليًّا ودوليًّا خاصة مع تأكيد جرايم وود، من مجلة ذي أتلاتنيك، أن محاولات شن العديد من الهجمات من قِبَل وكلاء "سُذج" تعكس "حدود ما يمكن أن تفعله إيران" حاليًا، ولكنها تعكس أيضًا نموذجًا "استراتيجيًّا" تلجأ إليه داعش والجماعات الإرهابية المتطرفة الأخرى لتشجيع مجاهديها على تولي زمام الهجوم بأنفسهم، كشكل من أشكال "العمالة الرخيصة" أو ما أشبه بـ"القتل المأجور"، الذي يلبي كل الرغبات العنيفة للنظام الإيراني وسط ثقتها بأنه لا يمكن محاسبتها بشكل مباشر.
وبالإضافة إلى اشتراكه في مؤامرات لتنفيذ هجمات عنيفة ضد شخصيات سياسية غربية وخصوم محليين يعيشون خارج طهران، لطالما تورط النظام الإيراني بشكل مباشر في هجمات إلكترونية ضد دول أخرى، ففي 14 سبتمبر 2022، اتهمت وزارة العدل الأمريكية ثلاثة إيرانيين بـ"التآمر لارتكاب عمليات احتيال وتهم ابتزاز إلكتروني"، لدرجة أن العملية اعتبرها جلين ثراش، مراسل صحيفة نيويورك تايمز، "حملة اختراق وقرصنة واسعة النطاق تستهدف عدة دول" بما في ذلك "حكومات محلية ومرافق عامة ومؤسسات أخرى غير هادفة للربح"، كان من بينها "ملجأ لضحايا العنف المنزلي ومستشفى للأطفال".
ووفقًا لـجلين ثراش، تم اختيار تلك الأهداف "ليس لأي سبب آخر غير أن أنظمتها الإلكترونية تعتريها نقاط ضعف" كما أن "عمليات اختراق أجهزة الحاسب الخاصة بمئات الشخصيات البارزة في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وبريطانيا"، كانت تهدف إلى المطالبة بدفع فدية على هيئة عملات مشفرة افتراضية لإزالة البرامج الضارة الخطيرة المثبتة على شبكات الضحايا. ومع ذلك، في هذه الحالة، يبدو من غير المحتمل تحقيق العدالة ضد هؤلاء الجناة والمرتكبين لتلك العمليات لكونهم داخل إيران، وعلى ما يبدو أنهم يتمتعون بحماية من قِبَل النظام الإيراني"، وأشار ثراش إلى أن واشنطن "أكدت عدم رغبة إيران في اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجرائم الإلكترونية المرتكبة داخل حدودها، وهو ما سهّل على الجناة العمل مع الإفلات من العقاب"، حيث اتهم مساعد المدعي العام الأمريكي ماثيو جي أولسن إيران بأنها ملاذ آمن لـ"مجرمي الإنترنت" (الجرائم الإلكترونية).
وأوضحت صحيفة الجارديان أن انتشار "هجمات برامج الفدية الضارة هذه قد نمت بشكل كبير خلال العقد الماضي، وأدت إلى إلحاق الضرر بالعشرات من الشركات الأمريكية والمنظمات الأخرى في جميع أنحاء العالم"، كما تم استخدام تلك الهجمات الإلكترونية من قِبَل قوى أخرى، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، على يد جهات فاعلة متشددة تعمل بالوكالة، بالإضافة إلى اعتمادها سياسة الاغتيالات المذكورة أعلاه، وتبنّي أسلوب الجرائم الإلكترونية التي يتقن ارتكابها مجرمون منظمون ونشطاء، لطالما أكدوا أمام أنظمتهم إنكار صلتهم بتلك الأنشطة، وتدرك كل وكالات الاستخبارات الغربية أنها تنسق وتتورط في مثل هذه الأعمال. وفي هذا الصدد، ردًّا على هجمات القرصنة الأخيرة، أصدرت وكالات الأمن السيبراني في الولايات المتحدة والمملكة القرصنة المؤخرة المتحدة وكندا وأستراليا تقريرًا استشاريًّا مشتركًا للأمن السيبراني، أكدت فيه أن "الجهات الفاعلة التابعة للحرس الثوري الإيراني" كانت "تستهدف مجموعة واسعة من الأهداف"، بما في ذلك "البنى التحتية الحيوية".
وتمتد محاولات إيران المتعلقة بممارسة أنشطتها الإلكترونية إلى نطاق أبعد من القوى الغربية التقليدية؛ حيث إنه في أوائل سبتمبر 2022، قطعت جمهورية ألبانيا علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بعد هجوم إلكتروني كبير في يوليو من نفس العام استهدف خدماتها العامة واستهدف سرقة معلوماتها وبياناتها الحكومية المهمة. وأشار ديفيد غريتن، من بي بي سي نيوز، إلى أن ألبانيا "عرضت في المقابل حق اللجوء على آلاف المعارضين الإيرانيين"، وأن الهجوم الإلكتروني كان يهدف إلى "إثارة الفوضى" في تلك الدولة العضو في الناتو. علاوة على ذلك، أضاف شون لينجاس، من سي إن إن، أن هذا الهجوم وقع قبل مؤتمر صحفي في ألبانيا حضره أعضاء من جماعة معارضة إيرانية.
ومن جانبه، أفاد "جون هولتكويست"، رئيس الاستخبارات في شركة الأمن السيبراني "مانديانت"، أن طرد ألبانيا للدبلوماسيين الإيرانيين "ربما يكون أقوى رد عام رأيناه على الإطلاق ضد مثل هذا الهجوم الإلكتروني"، مضيفًا أن "الهجوم يعد تذكيرًا بأنه في حين أن النشاط السيبراني الإيراني الأكثر عدوانية كان مركّزًا بشكل عام في منطقة الشرق الأوسط، بات الآن لا يقتصر على تلك المنطقة بأي حال من الأحوال". وبعد أيام من هذا الطرد، سجل المسؤولون الألبان هجومًا إلكترونيًّا آخر مرتبطًا بإيران، استهدف نظام مراقبة الدولة للأفراد الذين يدخلون ويغادرون البلاد.
وبالنظر إلى الخطر المتزايد الواضح للهجمات العنيفة والسيبرانية المرتبطة بالنظام الإيراني والحرس الثوري الإيراني، تساءل المحللون عما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها لاعتراض هذه الأعمال وردعها بشكل أفضل. وردًّا على الهجوم الإلكتروني لألبانيا المذكور أعلاه، اتهمت أدريان واتسون، المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، طهران بارتكاب أعمال "طائشة وغير مسؤولة" واعتبرت أنَّ هذه الهجمات تمثل "تجاهلاً لقواعد السلوك المسؤول للدولة في زمن السلم في الفضاء الإلكتروني". كما تعهدت واشنطن "بمحاسبة إيران على الأعمال التي تهدد أمن أحد حلفائها"، حيث فرضت إدارة بايدن عقوبات جديدة على وزير المخابرات الإيراني، إسماعيل الخطيب، ووزارته.
ومع ذلك، يرى هولتكويست، وكذلك الجهات الفاعلة السيبرانية الأخرى، "أن الحلول الدبلوماسية لن تردع طهران"، وأن "الأمر كما لو أن عواقب هذه الهجمات السيبرانية مقبولة بالنسبة إليهم في النهاية"، كما أوضح ليفيت أنه مع استمرار تلك المخططات السيبرانية الإيرانية "بلا هوادة"، من الواضح أن المسؤولين في طهران لن ينصاعوا إلى الكف عنها لأنهم "يعلمون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب"، وعلق هولتكويست كذلك على أن "لوائح الاتهام والتصنيفات والعقوبات المالية ليست ردودا كافية على مثل هذه الأنشطة، خاصة عندما يتم التخطيط لها على الأراضي الأمريكية. وعلى الأقل، يجب أن يشمل رد الولايات المتحدة وحلفائها العزلة الدبلوماسية، وحظر السفر الذي يمنع أفراد عائلات القادة الإيرانيين من الدراسة في الخارج أو الذهاب في رحلات تسوق إلى الغرب، وغيرها من الإجراءات التي تجعل صنّاع القرار الإيرانيين يتكبدون تكاليف ملموسة". وفي الوقت نفسه، كتب وود أن إدارة بايدن "ليست عاجزة" بشأن معالجة قضية الهجمات الإيرانية، معتبرًا أن "الرد المناسب على تطوير أو توجيه هجمات سيبرانية جديدة" سيكون جعل أي اتفاق نووي مستقبلي مع طهران "مشروطًا" بتخلي إيران عن عملياتها الإرهابية الدولية". ومع ذلك، فإن الفشل في القيام بذلك، وفقًا لـوود، من شأنه أن يخاطر بجعل الاتفاق "مقبولاً وجاذبًا" للنظام الإيراني من قِبَل النقاد والخبراء الأمنيين.
في النهاية، يبدو أن حملة الاغتيالات ومحاولات القتل والاختطاف وعمليات التجسس والهجمات الإلكترونية التي قام بها النظام الإيراني تظهر نواياه الواضحة للمطالبة بعمل انتقامي لمقتل الجنرال سليماني، فضلاً عن نيته إضعاف التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي في الدول الغربية. علاوة على ذلك، أشار ليفيت إلى أنه في خضم الاضطرابات الداخلية في إيران، من المرجح أن يحاول "الحرس الثوري الإيراني" حماية النظام من المعارضين المتمركزين في الخارج "بصورة أكثر عدوانية"، وبالتالي سيعم على المخاطرة مزيد من التصعيد. وبينما أُشير إلى المحاولات الإيرانية الحالية بأنها "ساذجة" و"تتميز بأخطاء تفتقد للعقل"، لا يمكن تجاهل استمرار انتشار مثل هذه المخاطر. وبالتالي، من الواضح أن هناك حاجة إلى وسيلة أفضل لردعها، وفقًا لما أشار إليه ليفيت. ومع ذلك، فإن غياب الوسيلة لمعاقبة المسؤولين الإيرانيين وعملائهم بالغرب بشكل كبير، يُلزم وكالات الاستخبارات بضرورة منع تلك الهجمات المدمرة التي تطول المسؤولين والمدنيين البارزين على حد سواء.
وعلى الرغم من أن هذه العملية هي نجاح لكييف، إلا أنه ينبغي النظر فيما إذا كانت ستؤدي قريبًا إلى إنهاء الأعمال العسكرية. فلا تزال القوات الروسية تسيطر على مساحات شاسعة من البلاد، وتبدو دفاعاتها في جنوب أوكرانيا أكثر مقاومة للهجمات، علاوة على أن احتمالية التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض غير قابلة للتطبيق في الوقت الحالي.
وبعد فشل هجوم الموجة الأولى في فبراير ومارس 2022 لإحباط المقاومة الأوكرانية؛ شنت روسيا هجومًا ثانيًا خلال فصلي الربيع والصيف، واستولت على أجزاء كبيرة من منطقة «دونباس» الشرقية، وعززت قبضتها على جنوب أوكرانيا. وفي 29 أغسطس 2022، ردت أوكرانيا بهجمات مضادة، وعجّلت بما وصفه الخبراء الغربيون بوقف تقدم موسكو. وبدأ بهجوم مضاد على مدينة «خيرسون» جنوب البلاد، في محاولة لتطويق الروس، بما أشارت إليه «جيزيل دونيلي»، من معهد «أمريكان إنتربرايز»، باسم «جيب خيرسون»؛ أطلقت أوكرانيا هجومًا ثانيًا أكبر حول مدينة «خاركيف»، وهو ما وصفته أيضا بـ«الخطأ التام للجيش الروسي»، والذي عانى على أثره بعد ذلك من «انهيار كامل». وأضاف «فيليبس أوبراين»، من جامعة «سانت أندروز»، أنه عند لجؤهم إلى إبعاد نظر الروس عن هجومهم الأكبر، فإن الأوكرانيين «حققوا ضربة رئيسية» من الخداع العسكري أدت إلى «تشتت» القوات الروسية حول خاركيف.
ويعد أفضل تقييم لنجاح الهجوم الأوكراني في سبتمبر حتى الآن؛ هو احتساب الأراضي التي تمت استعادتها. وفي 12 سبتمبر 2022، أوضح الرئيس الأوكراني، «زيلينسكي»، أن قواته استعادت أكثر من 6000 كيلومتر مربع، بما في ذلك مواقع استراتيجية رئيسية في شرق وجنوب البلاد. وتنعكس سرعة التقدم من خلال مطالبته بتحرير 1000 كيلومتر مربع فقط في الثامن من سبتمبر؛ واستعادته 3000 كيلومتر مربع في 11 سبتمبر. وعلى الرغم من تحقيق غالبية التقدم في الشمال، فقد تم الإبلاغ عن تقدم حوالي 500 كيلومتر مربع في جنوب البلاد، حيث المقاومة الروسية أقوى.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن هناك أهمية استراتيجية للأراضي التي استعادتها «كييف». وأشار «ديتش»، إلى أن هذا هو «أكبر تحرير للأراضي خلال هذه الحرب»، حيث «استعادت أوكرانيا في غضون أيام معظم المكاسب التي تحققت في الربيع للروس بدونباس». وقدم «جاك واتلينج»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، شرحًا عمليًا ورمزيًا لأهمية الهجوم من المنظور الأوكراني، حيث وثق كيف تواجه كييف حاليًا “ثلاث ضرورات»؛ أولها «المطلب السياسي» لإثبات أن توفير المساعدة العسكرية من الحلفاء «يؤدي إلى تقدم في ساحة المعركة»، وثانيًا ضرورة «استمرار تعطيل روسيا حتى لا تتمكن من استعادة زمام المبادرة أو تعزيز سيطرتها»، وثالثها إخراج الروس بالقوة من البلاد.
وحاز نجاح الهجوم الأوكراني على استحسان المراقبين الغربيين. وكتب «إيان بريمر»، لمجلة «تايم»، أن «الأمور تغيرت في الحرب»، وأوضح «جيريمي بوين»، من شبكة «بي بي سي نيوز»، أنه «أهم انتصار» لأوكرانيا. وأشارت «دونيلي»، إلى كيفية «تنفيذها خداعًا استراتيجيًا رائعًا». ولتوضيح هذه الديناميكية، أوضح «أوبراين» في مجلة «ذي أتلاتنيك»، أن هذه العملية لم تكن «مفاجئة»، وإنما كانت نتيجة «تخطيط عسكري دؤوب، وعملية أمنية ممتازة». ورأى «كير جايلز»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أن الأهمية الحقيقية «لا تكمن فقط في التقدم الاستثنائي لأوكرانيا»، ولكن أيضًا في «إثبات أنها تستطيع الأخذ بزمام المبادرة وتحرير الأراضي بمعدل مرتفع».
في المقابل، نظر المراقبون إلى هذا التطور باعتباره تراجعًا شديدًا لـ«عملية بوتين العسكرية الخاصة» في أوكرانيا. وأوضح «أندرو كرامر»، و«أندرو هيغينز»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن الكرملين «أصيب بالذهول» من «التقدم السريع للقوات الأوكرانية». وفي حين حاول حفظ ماء الوجه من خلال الإشارة إلى أن الانسحاب كان محاولة «لإعادة تجميع القوات؛ أكد «بوتين»، أن التراجع هو «هزيمة»، موضحا كيفية فشل «الاستخبارات العسكرية الروسية»، وتخلي الجنود عن كميات كبيرة من المعدات بدلاً من القتال. وسجل «معهد دراسة الحرب»، أن الجبهة الشمالية لروسيا في أوكرانيا «تنهار»، حيث «لم يقم الجيش بانسحاب منظم»، بل “سارع بالفرار».
واستمرارًا، كتبت «آن أبلباوم»، في مجلة «ذي أتلانتك»، أن «أكبر صدمة» للهجوم لم تكن «تكتيكات أوكرانيا، بل الرد الروسي»، مع انسحاب جنودها في حالة من الذعر، و«الهروب بأسرع ما يمكن»، بدلاً من التصدي للقوات الأوكرانية. ومن وجهة نظرها، تسلط هذه الديناميكية الضوء على أن «الاختلاف الأساسي» بين الجنود الأوكرانيين، «الذين يقاتلون من أجل وجود بلادهم»، والروس، «الذين يقاتلون من أجل رواتبهم، هو الفيصل الأساسي». وأشار «ميك مولروي»، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق إلى أن الهجوم الأوكراني «يتحرك بشكل أسرع، وأن الاستعداد الروسي للقتال على مستوى جنود المشاة يتراجع».
ونتيجة لهذا الأمر، زادت حالة السخط الداخلية لدى الروس لدرجة اعتراف قنوات التلفزيون الرسمية أن قواتها عانت من «أصعب أسبوع لها حتى الآن» في الحرب برمتها. وأوضح «بريمر»، أن «الحالة المزاجية بدأت في التدهور»، لاسيما مع «ازدياد استياء القوميين الروس». وأشار «كرامر»، و«هيغينز»، إلى أن «أكبر إحراج» لبوتين يتمثل في «حالة السخط لدى المدونين الموالين له مؤخرًا». وفي غضون ذلك، توجه «رمضان قديروف»، زعيم الشيشان، وحليف الرئيس الروسي، إلى وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد «الأخطاء» الروسية علنًا، وطالب بتفسيرات “للوضع الحقيقي على الأرض». ومع ذلك، فإن سيطرة الكرملين على وسائل الإعلام والتواصل، تؤكد أن السخط العام الصريح لا يزال محدودًا حتى الآن، ولكن لا يمكن ضمان استمراره في حالة حدوث المزيد من الخسائر.
وبالفعل، فإن معالجة «بوتين»، للأبعاد الاقتصادية والسياسية الناجمة عن الحرب كانت موضع شك. وأشارت «دونيلي»، إلى أن آلية شراء الأسلحة من إيران وكوريا الشمالية، «لا يمثل الطريقة المثلى التي تخطط بها قوة عظمى لشن حرب»، وأنه «من المؤكد» أن بوتين «لم يتمكن من ترجمة قرار بيع النفط والغاز بالروبل إلى إنشاء قدرات قتالية كبرى جديدة». وأكد «ستيف روزنبرغ»، من شبكة «بي بي سي»، أن الانتكاسات الأخيرة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، تُظهر أن قرار بوتين كان بمثابة «إساءة تقدير لا يمكن تخيلها»، لكنه مع ذلك أكد، أن الرئيس الروسي «نادرًا ما يعترف بأخطائه»، و«نادرًا ما سيحدث أية تغيرات لتدارك الموقف».
وفي ظل هذه الديناميكيات، تناول المراقبون مسألة ما إذا كانت الحرب ستنتهي قريبًا أم لا. وعلى الرغم من الاعتقادات السائدة بأن الأوكرانيين يمكنهم حقًا الانتصار في تلك الحرب، فقد أصدر الخبراء السياسيون تحذيرات من أنه ينبغي توقع استمرار حالة الصراع عدة أشهر، إن لم يكن لسنوات قادمة. وأوضح «واتلينج» أنه يجب «إقناع الروس بالتفاوض بجدية وإدراك أن الهزيمة العسكرية الوشيكة أمر منطقي تمامًا بالوقت الراهن». وأشارت «أبلباوم»، إلى أن “واقعًا جديدًا أكثر منطقية قد تم تشكيله” مفاده أن «الأوكرانيين يمكن أن ينتصروا».
ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبرى أمام أوكرانيا. فلا تزال روسيا تسيطر على حوالي 1/5 من الأراضي الأوكرانية وتتوغل بقوة في منطقتي لوغانسك ودونيتسك. ومن وجهة نظر «كرامر»، و«هيغينز»، «لا يزال تحقيق النصر بعيدًا، حيث يتعين على «كييف»، تكبيد موسكو خسائر طائلة، مقابل كل قدم من الأراضي التي قد يستعيدونها». ورأى «ماثيو لوكسمور»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن الأوكرانيين يواجهون الآن “تحدي العثور على القوة البشرية والذخيرة اللازمة لتعزيز مكاسبهم، وتوسيع نطاقها»، بينما أشارت «أبلباوم»، إلى أن “الروس لا يزال لديهم مخزون أكبر بكثير من الأسلحة والذخيرة».
علاوة على ذلك، فإنه على الرغم من انتكاساتها، لم تعترف «موسكو» بالهزيمة. وفي حين أصر «أوبراين»، على أن «بوتين»، سيكون «ذكيًا» لبدء المفاوضات لإنهاء الحرب؛ أصر المتحدث باسم الكرملين، «دميتري بيسكوف»، على أن روسيا ستواصل القتال «حتى يتم الانتهاء من جميع المهام التي تم تحديدها في البداية». وبالتالي، تم تسليط الضوء على مخاطر حدوث مزيد من التصعيد مستقبلاً. وأشارت «أبلباوم»، إلى أن موسكو لا تزال قادرة على إلحاق الضرر بالمدنيين الأوكرانيين من خلال الهجمات الصاروخية وقطع الكهرباء، بالإضافة إلى «العديد من الخيارات القاسية الأخرى»، لاسيما مع وجود محطة «زابوريزهزهيا» النووية بالقرب من خط المواجهة. وفي هذا الصدد، أشار «ديتش»، إلى أن نجاحات أوكرانيا قد تؤدي إلى إشعال فتيل «الدعوات بين القوميين الروس لشن تعبئة واسعة النطاق». وحذر «بريمر»، بشدة من أن الأحداث قد تجعل الصراع «أكثر خطورة» لو لجأ الرئيس الروسي «إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل» لتحقيق أهدافه».
ومن وجهة نظر المحللين الداعمين لكييف، فإن نجاح الأخيرة في حربها يضيف مصداقية للذين يدعمون تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا. ويرى «مولروي»، أن «الآن هو الوقت المناسب لدعم الأوكرانيين»، «واستغلال كل فرصة لديهم لإضعاف وتدمير القدرة الروسية على مباشرة القتال». ودعت «دونيلي»، واشنطن إلى «الضغط»، «ليس فقط لاستعادة السيادة والحرية الأوكرانية»، ولكن أيضًا “لإحياء إيمان العالم بالقوة والمبادئ الأمريكية».
من جانبه، يرى «واتلينج»، أن هناك احتمالات لاستمرار الهجمات الأوكرانية حتى عام 2023، «ومن المهم ألا يعتمد حلفاء أوكرانيا على القوائم المحددة من المعدات العسكرية الواجب إتاحتها حتى هذا التاريخ بعينه، ولكن “صياغة التزام طويل الأجل تجاه توفير العديد من المساعدات الهيكلية حتى عام 2024 على الأقل»، مضيفا، أن مثل هذه الخطوة من شأنها «إزالة الضغط السياسي» على كييف لإحراز تقدم سريع، و«توليد تأكيدات أكثر واقعية لدى الدول الغربية حول مدة الصراع وتأثيره». وبالفعل هناك توقع بمزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال»، أنه على خلفية النجاحات الأخيرة، ستطلب «كييف» المزيد من المساعدات العسكرية، بما في ذلك أنظمة الصواريخ الأمريكية طويلة المدى، بالإضافة إلى العديد من الدبابات وأنظمة المدفعية والطائرات المسيرة.
على العموم، فإنه على الرغم من النجاحات الحالية بالنسبة إلى كييف، فقد أشار «بريمر»، إلى أن هذه الهجمات وحدها «من غير المرجح أن تقصر أمد الحرب»، لكنها أظهرت أن موسكو يمكن بالفعل أن تتراجع عن تقدمها عن طريق استخدام أوكرانيا لأساليب الخداع والاستفادة إلى أقصى حد من الدعم الغربي. ولكن مع ذلك من غير المؤكد كيف يترجم هذا النجاح العملياتي الميداني إلى نصر استراتيجي أوسع نطاقًا، لاسيما مع إشارة «دونيلي»، إلى أن «وتيرة النصر ستتباطأ بالنسبة إلى الأوكرانيين»، وأن الطريق إلى ذلك لا يزال «غير مؤكد».
وعليه، فإن المحللين الغربيين يرجحون أن القتال والهجمات المضادة من كلا الجانبين ستستمر لأشهر عديدة قادمة، في الوقت الذي لا يتمتع فيها أي من طرفي الصراع بالقوة الكافية لتحقيق نصر بشكل كامل على الطرف الآخر.