23/9/2022
بعد الجنازة التاريخية للملكة "إليزابيث الثانية".. ما هو مستقبل دول الكومنولث؟
بعد عشرة أيام من الحداد الرسمي في المملكة المتحدة، أقيمت في 19 سبتمبر 2022 الجنازة الرسمية للملكة "إليزابيث الثانية"، أطول ملكة جلوسًا على عرش البلاد. وأقيمت جنازة رسمية في كاتدرائية "وستمنستر"، شهدها مئات من قادة العالم وكبار الشخصيات الأجنبية، بالإضافة إلى موكب من حوالي 4000 فرد عسكري يمشون عبر لندن نحو قلعة وندسور، موقع المثوى الأخير للملكة، وهو الحدث الفريد الذي وصفه المراقبون بـ"نهاية حقبة"، واعتبره "باتريك أوفلين"، في مجلة "ذا سبيكتاتور"، أنه "وداع لائق" لـ"إليزابيث العظيمة".
من جانبه، وصف "مارك لاندلر"، من صحيفة "نيويورك تايمز"، أول جنازة رسمية في المملكة المتحدة منذ جنازة "وينستون تشرشل" رئيس الوزراء إبان الحرب العالمية الثانية في عام 1965؛ بأنها "وداع مهيب لقائدة البلاد.. لم شمل البريطانيين عبر تعبير واسع عن الحزن والامتنان". وسلطت صحيفة "واشنطن بوست" الضوء على كيفية "تهيئة مدينة لندن بالكامل لهذا الحدث"، حيث سافر "مئات الآلاف" من الناس إليها ليشهدوا موكب الجنازة الذي بلغ طوله أميالًا". وأشارت "سارة كوفمان"، في صحيفة "واشنطن بوست"، إلى أن الحدث كان "إبهارا بصريا"، حيث "تواصلت الأجيال بحضور أحفادها والتنسيق"، واعتبرتها صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية "جنازة القرن".
وبالإضافة إلى العظمة الواضحة، أضافت صحيفة "واشنطن بوست" أن الموكب الجنائزي تميز بلحظات "هادئة" من "الجدية"، أبرزها "دقيقتان من الصمت جعلت البلاد، ومدينة يبلغ عدد سكانها 16 مليون شخص، في حالة توقف كامل". وعقب المراسم العامة والموكب، أقيمت جنازة خاصة في كنيسة الملك جورج السادس التذكارية بقلعة وندسور، حيث دفنت الملكة إليزابيث جنبًا إلى جنب مع دوق إدنبرة، زوج الملكة الراحلة الذي توفي عام 2021.
وأبرز الحدث السمعة العالمية للملكة إليزابيث، وما حازته من مكانة دبلوماسية إيجابية، حيث حضره عدد كبير من القادة الأجانب والشخصيات المرموقة؛ الأمر الذي وصفته صحيفة "فاينانشال تايمز" بأنه "أكبر تجمع للقادة الأجانب وكبار الشخصيات في لندن منذ عقود". وكان من بين 2000 مشيع حضروا مراسم الجنازة في كاتدرائية وستمنستر ما يقرب من 500 من كبار الشخصيات الأجنبية من حوالي 200 دولة. وأشار السير "إيفور روبرتس"، السفير البريطاني السابق لدى إيطاليا، إلى الجنازة باعتبارها "أعظم انتصار دبلوماسي في التاريخ الحديث"، و"مثالا رائعا للملكة الراحلة كقطب جذب دولي"، حيث فاقت أعداد الحضور بكثير ما يشهده مثيلها من التجمعات الدولية الأخرى، مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومع وجود عدد من ممثلي دول العالم الذين يرغبون في تقديم احترامهم للملكة الراحلة، أشار "تشارلز مور"، في صحيفة "التليغراف"، إلى أن كاتدرائية وستمنستر القديمة "لم تكن كبيرة بما يكفي" لتتسع لهم جميعًا، ومثّل ذلك "أزمة لوجستية" لإيصال قادة العالم إلى وسط لندن، حيث تم نقل العديد من الزوار البارزين، بمن في ذلك العائلات الملكية في إسبانيا وبلجيكا ووفد الصين وقادة من العديد من البلدان الإفريقية والآسيوية، إلى الموقع بواسطة الحافلات، بدلاً من الموكب المعتاد للسيارات الفاخرة.
وكان من بين أبرز الحاضرين مراسم الجنازة عدد من رؤساء دول كل من الولايات المتحدة "جو بايدن"، وفرنسا "إيمانويل ماكرون"، وإيطاليا "سيرجيو ماتاريلا"، وألمانيا "فرانك شتاينماير"، والبرازيل "جاير بولسونارو"، وإمبراطور اليابان "ناروهيتو"، بالإضافة إلى "أورسولا فون دير لاين" رئيسة المفوضية الأوروبية، كما حضر أعضاء من العائلات المالكة في أوروبا من السويد، وهولندا، وبلجيكا، والدنمارك، والنرويج، وإسبانيا.
وبالنسبة إلى الشرق الأوسط، حضر العديد من الشخصيات المرموقة؛ في طليعتهم جلالة الملك "حمد بن عيسى آل خليفة"، وسمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير "سلمان بن حمد آل خليفة"، وملك الأردن "عبد الله الثاني"، وسلطان عمان "هيثم بن طارق"، وأمير قطر الشيخ "تميم بن حمد آل ثاني"، وولي عهد الكويت الشيخ "مشعل الأحمد الصباح"، ونائب رئيس دولة الإمارات حاكم إمارة دبي الشيخ "محمد بن راشد آل مكتوم"، ومثّل السعودية وزير الدولة عضو مجلس الوزراء الأمير "تركي بن ??محمد آل سعود"، كما حضر الرئيس اللبناني "نجيب ميقاتي"، ووزير خارجية تركيا "مولود جاويش أوغلو".
أما ما يتعلق بالنطاق الدولي للمدعوين لحضور مراسم الجنازة الرسمية فقد أشارت صحيفة "فاينانشيال تايمز"، إلى أن "عددا قليلا من قادة العالم فقط" لم يتلقوا دعوات، بما في ذلك غياب الممثلين عن كل من روسيا، وسوريا، وأفغانستان، وفنزويلا، وميانمار، وبيلاروسيا، وهو ما يعكس بعضا من تداعيات حرب أوكرانيا الجارية، "وعدم وجود علاقات دبلوماسية كاملة مع المملكة المتحدة" لبعض البلدان. من ناحية أخرى تمت دعوة كل من إيران وكوريا الشمالية على مستوى السفراء.
وعلى الرغم من أن هذا الحدث كان بمثابة تجمع لزعماء العالم والشخصيات المؤثرة، فإنه كان بالكامل إحياءً واحتفالا لذكرى الملكة إليزابيث الثانية وإرثها المحلي والدولي. وأطلق خبر وفاة الملكة سيلاً من كلمات التعازي والمواساة في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في ضوء الاعتراف بدورها المهم في تعزيز العلاقات الودية والتعاون بين كافة دول العالم، وتم تأكيد هذا الدور بشكل أفضل من خلال دول الكومنولث، التي عملت الملكة الراحلة كرئيسة لها.
وعلى الصعيد المحلي، وصف "أندرو مارشال"، من "المجلس الأطلسي"، وجود الملكة إليزابيث الثانية في المملكة المتحدة بأنه "بدًا دائمًا حضورًا متينًا وموثوقًا، مثل نهر التايمز، أو منحدرات دوفر الصخرية البيضاء". وانعكست أهمية وفاتها في التاريخ البريطاني في ردود الفعل من كافة جموع الأمة، التي تميزت بنبرات الحزن وآيات التقدير. وظهر هذا على الأخص خلال فترة الحداد التي سبقت مراسم الجنازة الرسمية؛ حيث زار أكثر من ربع مليون مواطن نعشها، أثناء وجوده في قاعة وستمنستر، في صورة طابور منظم، امتد عدة أميال عبر العاصمة، إلى درجة وصلت معها فترات انتظار المعزين إلى ما بعد 24 ساعة.
ومع انتهاء الحدث، سرعان ما أثارت خلافة الملك "تشارلز الثالث" تكهنات حول مستقبل الملكية البريطانية في الداخل والخارج. ويعد العاهل البريطاني الجديد بالوراثة رئيسًا لأربع عشرة دولة أخرى تضم دول الكومنولث، من بينها كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، التي يبلغ مجموع سكانها أكثر من 150 مليون نسمة. وفي حين أن الشعبية العامة وطول عمر حكم الملكة إليزابيث "حظيا بمستوى معين من الاحترام حتى بين الجمهوريين"، فإنه وفقًا لـ"جيمس ماكبرايد"، من "مجلس العلاقات الخارجية"، فإن حقيقة أن "تشارلز الثالث لا يتمتع بكثير من الديناميات التي كانت تتسم بها الملكة الراحلة من الممكن أن تقلص نفوذ ودور العائلة المالكة البريطانية خارجيًا".
علاوة على ذلك، علق "مارشال" بأن "الدور العالمي المتلاشي لبريطانيا، ضمن مجموعة دول الكومنولث، تحول إلى دور أكثر مساواة من حيث القوة مع الدول الأخرى"، وأن الملكة إليزابيث "تكيفت مع هذا الهيكل الجديد للمجموعة وفقًا لقدرات مملكتها"، بالإضافة إلى ما أثارته الخلافة من أسئلة واسعة النطاق حول ما إذا كانت الدول ستحتفظ بتشارلز الثالث كرئيس لدول الكومنولث في السنوات المقبلة.
وقبل وفاة الملكة تسارعت بالفعل وتيرة جهود اتحاد دول الكومنولث، التي تسعى لقطع علاقاتها مع عائلة "آل وندسور" المالكة، ومحاولات إعلان نفسها جمهوريات. وفي نوفمبر 2021 أصبحت جزيرة "بربادوس" الكاريبية جمهورية. وأشار رئيس الوزراء الجامايكي "أندرو هولنس" إلى نية بلاده فعل الشيء نفسه في مارس 2022. وبعد شهر، تحدث رئيس وزراء "أنتيغوا وبربودا" أيضًا عن الكيفية التي يجب أن تصبح بها دولته الكاريبية "يومًا ما جمهورية".
وفي الوقت الحالي، أثيرت أيضًا شكوك حول وضع العائلة المالكة في كافة دول الكومنولث. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو" قد التزم بالحفاظ على التاج البريطاني، وآثر "ثبات الأمر كما هو"، فقد وجد استطلاع في مارس 2021 أن 24% فقط من الكنديين يفضلون بقاء بلادهم ملكية بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية، بينما 45% يفضلون وجود دولة منتخبة مستقلة.
وفي أستراليا، علقت "سيندي ماكريري"، من جامعة "سيدني"، أن وفاة الملكة أتاحت للجمهوريين "مساحة أكبر للتحدث بصراحة عن المستقبل الدستوري" لبلادهم، وتمهيد الطريق أمامها "لجعلها جمهورية". وأشارت صحيفة "الجارديان" إلى أن رئيس الوزراء الحالي "أنتوني ألبانيز" "مؤيد منذ فترة طويلة لأن تصبح أستراليا جمهورية"، فضلا عن أن رئيسة الوزراء السابقة "جوليا جيلارد" أيدت مثل هذا الإصلاح.
وفي المقابل، فإنه بالنسبة إلى المستقبل القصير المدى، وبالنظر إلى الطبيعة "الرمزية " لرئيس هذا الاتحاد، أشار "ماكبرايد" إلى أن "هناك تغييرات قليلة قد تطرأ على اتحاد الكومنولث"، ومن المتوقع حدوث تحول على المدى الطويل. ومع ذلك، أوضح "مارشال" أنه بالنسبة إلى تشارلز الثالث هناك دلائل بالفعل على أنه يستعد لـ"الابتعاد" عن دور رئيس الاتحاد، الذي كانت والدته متحمسة في قيادته طوال عدة عقود.
على العموم، كانت جنازة الملكة "إليزابيث الثانية" حدثا فريدا، متناسبا مع حياة وحكم ملكة مشهورة ذاع صيتها في جميع أقطار العالم، جراء تأثيرها ودورها القوي كسفيرة لبريطانيا. ويعد تجمع المئات من قادة العالم والشخصيات البارزة، واصطفاف مئات الآلاف من المواطنين العاديين لتوديعها؛ شهادة على الاحترام الهائل والاعتراف الذي تستحقه على الصعيدين الداخلي والدولي.
ويتبقى في الوقت الحالي النظر إلى مستقبل النظام الملكي، واتحاد الكومنولث تحت قيادة وحكم الملك تشارلز الثالث، وهو ما يمثل حقبة جديدة في التاريخ البريطاني، وعهدا مرتقبًا من التفاعلات التي قد تباشرها لندن مع بقية دول العالم.