05/10/2022
لماذا تكرر بريطانيا أخطاءها التاريخية بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة
عقب أقل من شهر من تولي ليز تراس منصب رئيسة وزراء بريطانيا، جاء التغيير الأكبر في سياسة الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عامًا؛ من خلال الإعلان بأنها تجري مراجعة بشأن احتمال نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس.
وفي انعكاس للقرار المثير للجدل الذي اتخذته الإدارة الجمهورية لدونالد ترامب في عام 2018، سجلت صحيفة التليغراف أن المسؤولين الإسرائيليين «سعداء» بهذا التحول المحتمل، على الرغم من ردود فعل معارضة من قِبَل حكومات وسياسيين ومراقبين، محذرين من تهميش محنة الفلسطينيين من خلال إضفاء الشرعية على انتهاكات إسرائيل والتوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى إضعاف مكانة بريطانيا الدبلوماسية في الشرق الأوسط، فضلاً عن صورتها بزعم أنها مدافع عن القوانين والاتفاقيات الدولية.
وحتى اعتراف الرئيس الأمريكي ترامب في ديسمبر 2017 بالقدس عاصمة لإسرائيل وإعلانه نيته نقل سفارة واشنطن من تل أبيب، كان موقع السفارات الدولية لإسرائيل في تل أبيب قضية كامنة منذ ضم إسرائيل غير المعترف به دوليًّا للضفة الغربية وغزة عام 1967. لذلك، سلط المعلقون الغربيون الضوء على كيف أن نوايا تراس في اتباع النموذج الأمريكي تمثل تحولًا كبيرًا، في سياسة بريطانيا الشرق أوسطية. وتمثل المملكة المتحدة حاليًا قنصلية في شرق مدينة القدس إلى جانب سفارتها الدائمة في تل أبيب.
وفي عام 2022، ذكرت يولاند نيل، مراسلة بي بي سي: أن «مثل هذه الخطوة ستكون مثيرة للجدل»، على الرغم من أنه يبدو أن درجة معينة من التخطيط والتحضير المسبق قد تمت قبل مناقشة تراس للاقتراح مع نظيرها الإسرائيلي يائير لابيد أثناء مشاركتها في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة في سبتمبر 2022، ووعدت بإجراء «مراجعة للموقع الحالي» في اجتماعها مع لابيد.
كانت مواقف تراس المنحازة لإسرائيل جلية بالفعل وبشكل صارخ، ففي حديثها إلى المجموعة البرلمانية لأصدقاء إسرائيل المحافظين CFI خلال حملتها على زعامة الحزب، أصرت وزيرة الخارجية آنذاك على أنه في ظل رئاستها للوزراء، لن يكون لإسرائيل «صديق مخلص أكثر منها في العالم»، وأنها بدلاً من مجرد «الاكتفاء بالكلام» فإنها «ستمضي قُدُمًا» في دعمها لإسرائيل، وكتب أهيلير، زميل أول في المعهد الملكي للدراسات الدفاعية والأمنية RUSI، أنه في حين أنه ربما كانت تراس «تحاول ببساطة خلق انطباع جديد وجريء» على المسرح العالمي، فإن الأخطاء غير المبررة سوف «تأتي بكلفة باهظة للمصالح البريطانية» ولن تجلب «أي فوائد على الإطلاق».
بالإضافة إلى كونه تحولًا كبيرًا في السياسة البريطانية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن نقل المملكة المتحدة بعثتها الدبلوماسية الأساسية في إسرائيل إلى القدس سيعتمد على اعتراف الولايات المتحدة السابق بالسيادة الإسرائيلية على المدينة. وسجلت المراسلة نيل كيف أن قرار ترامب في ديسمبر 2017 «قوبل بإدانة دولية واسعة»، فضلاً عن أنه أدى إلى «اشتعال العنف الذي قتل فيه مئات الفلسطينيين على يد القوات الإسرائيلية (450 منذ بدايتها)». ومن بين الذين انتقدوا القرار رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي، التي وصفته بأنه «غير مفيد لآفاق السلام ويزيد من العنف وعدم الاستقرار في المنطقة».
وربما يفتح نقل الحكومة البريطانية المحتمل لسفارتها إلى القدس الباب أمام دول أخرى لتحذو حذوها. لاحظ روثويل وتورنر، من صحيفة التليغراف، أنه منذ نقل السفارة الأمريكية في عام 2018، مارست الحكومة الإسرائيلية «ضغوطًا على حلفائها سنوات لنقل سفاراتهم»، ولكن خلال هذه السنوات التي مرت اختارت غواتيمالا وهندوراس وكوسوفو فقط القيام بذلك. وبالتالي فإن إضافة المملكة المتحدة ستعزز مزاعم إسرائيل بالسيادة على المدينة، مما يثير استياء وغضب الفلسطينيين والشعوب العربية والإسلامية والخبراء في شؤون الشرق الأوسط.
وفي الواقع، هناك بالفعل احتمال أن تقوم دولة غربية أخرى بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، وفي الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية الأخيرة في إيطاليا، تعهد الزعيم القومي اليميني ماتيو سالفيني بأنه إذا دخل حزبه في الحكومة، فإنه سيدعو إلى نقل سفارة بلاده. وعلى الرغم من حصوله على 9% فقط من الأصوات الانتخابية النهائية للبلاد، دخل سالفيني في ائتلاف مع أحزاب يمينية أخرى بقيادة جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوان إيطاليا، التي شجعت بنفسها على تعزيز العلاقات بين حزبها وحزب الليكود الإسرائيلي.
ويتركز النقد اللاذع من كل الخبراء والمعلقين الغربيين تجاه النوايا الجديدة للحكومة البريطانية من وراء نقل السفارة في حقيقة أن هذه الخطوة من شأنها إضفاء شرعية غير قانونية على السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة بما يتعارض مع القانون الدولي، كما أنها تمثل انتهاكًا للاتفاقيات التاريخية القائمة، فضلاً عن دورها في تقويض عملية السلام وحل الدولتين، بالإضافة إلى زيادة تهميش الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وانتهاك حقوقهم بسبب انحياز الحكومة البريطانية رسميًا لإسرائيل، وهو ما يُظهر أن بريطانيا لا تزال تدير ظهرها للمساءلة عن القرارات التاريخية التي اتخذتها والتي لا تزال تؤثر بشكل يرثى له على المنطقة بأسرها.
وأوضح الكاتب دونالد ماكنتاير، في الغارديان، أن نقل السفارة البريطانية إلى القدس ستكون بمثابة «خطوة ستثير غضب» المجتمع الدولي الذي «أدان دونالد ترامب بشكل فريد لقيامه بتلك الخطوة في السابق». وأضاف ماكنتاير أن هذه الخطوة ستتعارض مع «القانون الدولي وكل قرار للأمم المتحدة على مدى خمسة عقود دعا فيها إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي» للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
ولكن افتتاحية صحيفة الغارديان، وصفت «قضية» نقل السفارة البريطانية إلى القدس بأنها «منطقية وقانونية وعملية وكذلك أخلاقية»، ولكنها أضافت أنها «تلغي» التزام بريطانيا بخيار «حل الدولتين» في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك «تغض الطرف ضمنيًّا عن المستوطنات غير القانونية» التي أنشأتها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية. كما ردد السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط أن مثل هذه الخطوة هي «انتهاك للقانون الدولي» وستكون «انتهاكًا صارخًا» لـ«المسؤوليات التاريخية» للمملكة المتحدة.
ومن بين السياسيين البريطانيين، كتبت النائبة عن حزب العمال ناز شاه إلى رئيس الوزراء لحثها على عدم «الإقدام على سابقة مروعة» من شأنها إضفاء الشرعية على ضم أراضي فلسطينية، وذلك في انتهاك صارخ للقانون الدولي، مستشهدة بـ«بضم روسيا أراضي أوكرانية» على سبيل المقارنة؛ حيث كانت ردود الفعل الغربية مختلفة بشكل ملحوظ وأكثر وضوحًا حيال هذا الضم من ردود الفعل تجاه الانتهاكات الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة. وبالإضافة إلى ذلك، وصف روس جرير، المتحدث باسم حزب الخضر الاسكتلندي للشؤون الخارجية، خطوة تراس بـ«الطائشة وغير المسؤولة»، ومن شأنها «زيادة احتمالية العنف بلا داع».
وفيما يتعلق بمحنة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، رأت صحيفة الغارديان أنهم «على حق» في الشعور «ليس فقط بالإحباط والغضب، ولكن بالخيانة» من قِبَل «الحكومة البريطانية»، خاصة مع تعليق ماكنتاير على «الدور التاريخي لبريطانيا» في الشرق الأوسط.. ولعل هذا الأمر هو ما يفرض عليها التزامًا فريدًا بالسعي لتحقيق العدالة للفلسطينيين»، وذلك في إشارة منه إلى وعد بلفور عام 1917، وكيف أن الحماية البريطانية المفترضة »للمجتمعات غير اليهودية» تظل «أملاً لم ير النور بعد»، وذلك من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة البريطانية إلى هناك، كما أوضح ماكنتاير أن هذه الخطوة من شأنها «دفن فكرة تقسيم القدس إلى عاصمتين» بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبالتالي «المساعدة بشكل مباشر في تمكين إسرائيل من حق توسيعها المستمر للمستوطنات غير الشرعية، ليس فقط في القدس الشرقية ولكن عبر الضفة الغربية أيضًا».
وهناك عنصر آخر يجب مراعاته وهو مستقبل القنصلية البريطانية في القدس الشرقية؛ حيث إنه عندما نقلت إدارة ترامب بعثتها الدبلوماسية الأساسية في تل أبيب إلى القدس في عام 2018، أُغلقت القنصلية الأمريكية التي كانت بمثابة سفارة فعلية للفلسطينيين. وعلى الرغم من وعود إدارة بايدن اللاحقة بإعادة فتح هذا المرفق قريبًا، اعتبارًا من سبتمبر 2022، إلا أن هذا المرفق لا يزال غير نشط وخارج نطاق الخدمة. وبالتالي، في حالة استمرار المملكة المتحدة في تنفيذ نواياها، يمكن أن تغلق بشكل مماثل قنصليتها، وهو أمر يحد من قدرة الفلسطينيين على التعامل مع بريطانيا والدول الغربية.
وبغض النظر عن الإدانات المتعلقة بما قد يعنيه هذا بالنسبة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أفاد النقاد أن نقل السفارة سيقوِّض العلاقات الدبلوماسية والسياسية البريطانية في الشرق الأوسط، وقد لاحظ وينتور معارضة عالية المستوى من دول في أوروبا والشرق الأوسط، وأشار إلى اعتقاد أوروبي بأن مثل هذه الخطوة «غير حكيمة تمامًا»، كما حذر دبلوماسيون من الشرق الأوسط أيضًا من أن هذ الخطوة من شأنها أن «تُعرِّض المحادثات بشأن اتفاق تجارة حرة بين المملكة المتحدة ومجلس التعاون الخليجي للخطر»، كما نقلت صحيفة الغارديان عن دبلوماسي بريطاني سابق لم تذكر اسمه أن تراس أقل من أن «تُقارن» بـدونالد ترامب، «فالولايات المتحدة كبيرة بما يكفي لتشق طريقها في الشرق الأوسط»، في حين أن نقل سفارة المملكة المتحدة لن يكون له أدنى «تأثير» يذكر سوى الإضرار بعلاقاتها مع بقية الشرق الأوسط. وخلص ماكنتاير إلى أنه من خلال «مجرد الإعلان» عن نواياها بشأن هذه الخطوة، فإن القيادة الجديدة قد «ألحقت بالفعل الكثير من الضرر بالمصالح البريطانية طويلة الأجل» التي «ستبدأ التراجع عن طريق هذا القرار الحاسم المعني بالنقل المقترح لسفارتها إلى القدس».
في النهاية يبدو أن اقتراح الحكومة البريطانية بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، على غرار النموذج الأمريكي، سيهدد بالإضرار بعلاقاتها طويلة الأمد مع دول أخرى في الشرق الأوسط. وفي الشهر الأول فقط من توليها السلطة، أشارت حكومة المحافظين بزعامة ليز تراس إلى نيتها تغيير عقود من السياسة البريطانية. وبالتالي، ليس من المستغرب أن تكون ردود أفعال المحللين الغربيين رافضة لتلك الخطوة، حيث خلصت صحيفة الغارديان إلى أن «المسؤوليات التاريخية لبريطانيا، وكذلك القانون الدولي»، تطالب الأخيرة «بعمل أفضل ما لديها» لضمان حقوق الفلسطينيين و«عدم إضافة مزيد من الأضرار» إلى القائمة التي سببها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.