21/10/2022
قراءة في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2022
عند توليه منصبه في أوائل عام 2021، وعد الرئيس الديمقراطي «جو بايدن»، بتبني مجموعة من أهداف السياسة الخارجية المغايرة تمامًا للإدارة السابقة، بقيادة «دونالد ترامب». وبدلاً من السياسات المعتادة للجمهوريين، وعدت التوجيهات الاستراتيجية للأمن القومي المؤقت للإدارة الجديدة الصادرة في مارس 2021 بأن الولايات المتحدة «ستقوي حلفاءها وتقف وراءهم»، و«تعمل مع شركاء متشابهين في التفكير» من أجل «تعزيز المصالح المشتركة وردع التهديدات المماثلة».
ومع ذلك، فمنذ إصدار النظرة الاستراتيجية المؤقتة، تم اختبار عزم الولايات المتحدة الدولي الجديد من خلال عدد من التحديات الخارجية، مثل حرب أوكرانيا، وسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وهي الخطوة التي أغضبت الحلفاء الغربيين الذين لم يتم استشارتهم، كما أثارت أيضًا تساؤلات حول التزامات واشنطن طويلة الأمد بأمن حلفائها في جميع أنحاء العالم.
وفي ظل حالة عدم اليقين هذه، أصدرت إدارة «بايدن»، استراتيجيتها الكاملة للأمن القومي في أكتوبر 2022، وهي وثيقة قال عنها الرئيس الأمريكي نفسه إنها «ترتكز على العالم كما هو اليوم». وتتميز بتعزيز الديمقراطية والقيم المشتركة في الخارج، جنبًا إلى جنب مع الاعتراف بمتطلبات الاستجابة للمنافسة الدولية المتزايدة من الصين وروسيا، والتحديات الدولية المشتركة، مثل تغير المناخ». وعلى الرغم من أن «جاريت رينشو»، و«مايكل مارتينا»، من وكالة «رويترز»، أوضحا أنها «لا تتضمن أي تحولات كبيرة في التفكير، ولا تقدم أي مبادئ رئيسية جديدة للسياسة الخارجية»؛ إلا أن «إيمي ماكينون»، في مجلة «فورين بوليسي»، رأت أنها «نظرة أكثر تعمقًا لرؤية إدارة بايدن للعالم حتى الآن».
وعلى الرغم من أن الوثيقة تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى إنشاء ودعم «نظام دولي حر، ومنفتح ومزدهر وآمن»؛ فقد تم رصد تحديين رئيسيين؛ هما «المنافسة المستمرة بين القوى العالمية الكبرى، لتشكيل النظام العالمي بعد الحرب الباردة»، بالإضافة إلى حقيقة أن «الناس في جميع أنحاء العالم يكافحون للتعامل مع آثار التحديات المشتركة العابرة للحدود»، مثل قضايا «تغير المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والأمراض المعدية، والإرهاب، ونقص الطاقة»، ويبقى «التضخم» في طليعة هذه القضايا المشتركة.
وفي ظل تأكيدها أن المنافسة العالمية تكون دائما «بين الديمقراطيات، والأنظمة الاستبدادية»، فقد أوضحت أن هناك «حاجة إلى دور أمريكي قوي وفعال في العالم، أكثر من أي وقت مضى». ولمواجهة المنافسة العالمية كما تخطط إدارة «بايدن»، تنص الوثيقة على أنها «ستدعم حقوق الإنسان العالمية، وتتضامن مع أولئك الذين يسعون وراء الحرية والكرامة خارج حدودنا»، استنادًا إلى الاعتقاد بأن «الحكم الديمقراطي يتفوق على الاستبداد في حماية حقوق الإنسان». وفي حين يُنظر إلى روسيا على أنها تشكل «التهديد الأكثر إلحاحًا على النظام الدولي الحر والمنفتح»، من خلال «حربها ضد أوكرانيا»، فإنها ترى أن الصين «هي المنافس الوحيد للولايات المتحدة»؛ بهدف تشكيل النظام الدولي، وبشكل متزايد من خلال القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف».
وفيما يتعلق بالتحديات المشتركة، أشارت إلى «تغير المناخ»، باعتباره «التحدي الأكبر المحتمل للعالم»، وأنه «من دون اتخاذ إجراء عالمي فوري خلال هذا العقد الحاسم؛ ستكون تأثيرات المناخ لا رجعة فيها». وفي موضع آخر، أكدت أن جائحة «كوفيد-19»، «كشفت عدم كفاية الهيكل الصحي العالمي، وسلاسل التوريد»، في حين أدت «التحديات الاقتصادية العالمية»، إلى تفاقم «ارتفاع أسعار الطاقة، وتزايد انعدام الأمن الغذائي».
وبالنسبة إلى الشرق الأوسط، فإن «الاستراتيجية»، تولي أولوية أقل للمنطقة كما لاحظ المحللون، مقارنة بالإدارات السابقة، حيث تؤكد «التفضيل المعلن لاستخدام الأدوات الدبلوماسية، بدلاً من العمل العسكري»؛ فلن تستخدم «واشنطن»، جيشها «لتغيير أنظمة حاكمة»، أو «إعادة تشكيل مجتمعات ما بعينها»، و«حصر استخدام القوة في الظروف التي يكون فيها من الضروري حماية مصالح أمنها القومي»، وذلك بما يتماشى مع القوانين الدولية»، كما أكدت رغبة إدارة «بايدن» في «الجمع بين الدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والأمنية» لدول الشرق الأوسط.
وحول ما تعنيه الاستراتيجية للوجود الأمريكي في المنطقة، أوضحت أنها ستسعى خلال عام 2022، إلى «إطار عمل جديد»، يقوم على «تعزيز قدرات الشركاء»، و«تمكين نقاط التكامل الأمني الإقليمي»، و«التركيز على آلية الردع»، و«استخدام الدبلوماسية لتهدئة التوترات»، و«وضع أساس طويل الأمد للاستقرار في المنطقة»، و«الحاجة إلى وضع عسكري مستدام وفعال». ومن هذا المنطلق وضعت «ثلاثة مجالات ذات أولوية»؛ هي «الاستثمار في المصادر الأساسية لقوة الولايات المتحدة، والعمل مع الحلفاء والشركاء لمواجهة التحديات المشتركة، ووضع قواعد طرق التجارة، والاقتصاد والتكنولوجيات الناشئة». علاوة على تأكيد «واشنطن»، دعم العلاقات مع «الدول التي تلتزم بالنظام الدولي القائم على القواعد»، و«منع أي «قوة أجنبية أو إقليمية من تهديد حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط»، وكذلك «تعزيز» منظومات الدفاع الجوي والبحري المتكاملة».
ومع ذلك، افتقرت «الوثيقة»، كما يقول «ويليام ويشسلر»، من «المجلس الأطلسي»، إلى التفاصيل حول كيفية تحقيق ذلك على المستوى الإقليمي، معلقا، بأنها لا ترقى إلى «استراتيجية حقيقية»، ومتسائلاً هل معنى أن إدارة بايدن، لن «تتسامح» مع جهود أي دولة للسيطرة على دولة أخرى، أنها ستوقف جهودها طويلة الأمد لتعزيز «المساعدات العسكرية» لشركائها الخليجيين في وجه تهديد إيران؟، موضحا أن من المحتمل ألا يكون هذا هو الحال، نظرًا إلى أن هناك تأكيدا في الوثيقة لدعم تشكيل «هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة».
وفيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية الأمريكية حول إيران، كتبت «باربرا سلافين»، من «المجلس الأطلسي»، إن رؤية «بايدن»، «لم تحتو على مفاجآت»، فيما يتعلق بسياسة التعامل مع طهران، والتي تشير إلى التزامات «غير محددة» للعمل مع كل الحلفاء لحماية المصالح الأمريكية. ونصت على أن «واشنطن»، «ستواصل العمل مع حلفائها وشركائها»؛ لردع جهود إيران التي تهدف إلى زعزعة الأمن الإقليمي، وعدم تمكينها من الحصول على سلاح نووي، «مع الحفاظ على الجهود الدبلوماسية»، والاستعداد «لاستخدام أية وسائل أخرى في حالة فشلت هذه الجهود». أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فقد تم تأكيد استمرار تبني خيار «حل الدولتين»، الذي يضمن «تلبية التطلعات الفلسطينية إلى دولة آمنة وقابلة للحياة فيها»، كما أنها أظهرت مدى «الدعم الصارم لواشنطن حيال الالتزام «بأمن إسرائيل، .
من جانبه، علق «دانيال شابيرو»، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، بأن استراتيجية الأمن القومي تقدم «مبادئ سليمة لتوجيه سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، من دون أدنى «زيادة بالموارد أو تجاهل الأولويات العالمية». ومع ذلك، أشار إلى أن الأحداث التي جرت قبل وقت قصير من نشر الاستراتيجية، وأبرزها قرار «أوبك بلس»، بخفض حصص إنتاجها من النفط قبل شتاء 2022، قد يعرقل قدرة «واشنطن» على تنفيذها على أرض الواقع، مستشهدا بأن «التهديدات»، التي تمثلها أحدث موجة من الاحتجاجات في إيران تعرقل أيضًا شرعية، ومنطق إدارة «بايدن»، في الانخراط دبلوماسيًا مع نظام يستخدم الإكراه لقمع المعارضة، وخلص إلى أنه «كما كان الحال دائمًا، فإن المنطقة تعاني من تخمة الوثائق الاستراتيجية»، وأن الأمر سيجبر صانعي السياسة الأمريكيين على إجراء «مقايضات صعبة من حيث التنازل عن أولوية ما، مقابل التعويض عنها بأخرى بنفس درجة أهميتها».
وبهذا المعنى، تشعبت أفكار المحللين بين دعم وانتقاد استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن. ففي حين أشار السفير الأمريكي السابق لدى بولندا، «دانييل فرايد»، إلى أنها «تطبيق قوي للتقاليد الليبرالية الدولية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة»، ووصفتها «إيما أشفورد»، من مركز «ستيمسون»، بأنها «واضحة للغاية وبمثابة منهج لسياسة خارجية أمريكية ليست للأمريكيين فحسب، لكن للعالم»؛ فقد أشار «غابرييل شاينمان»، من «جمعية ألكسندر هاملتون»، إلى العديد من «التناقضات الداخلية فيها، حيث تظهر كما لو كانت مكتوبة بواسطة طرفين مختلفين من داخل الحزب الديمقراطي؛ «كوسيلة» لإرضاء وتهدئة المواطنين الأمريكيين». بالإضافة إلى ذلك، أشارت «ماكينون»، إلى أنها «لم تكن واضحة»، حيال عدم ذكر الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة، تجاه أفغانستان بعد الانسحاب الفاشل منها عام 2021.
وعلى نطاق أوسع، رأى «ويشسلر»، أن الولايات المتحدة، «منقسمة للغاية في الداخل لدرجة أن وثيقة واحدة لن تشكل بأي حال «إجماعًا وطنيًا»، مؤكدا أن استراتيجيات الأمن القومي الأخيرة، التي أصدرتها إدارات واشنطن «قد تدهورت إلى حد كبير، وأصبحت أطروحات سياسية موجهة إلى الداخل الأمريكي، بدلاً من أن تكون توجيهًا إلى أولئك الذين يتعين عليهم تنفيذ سياساتها خارجيًا».
وبشكل عام، فإن تقييم تلك الاستراتيجية يشير إلى افتقارها إلى التفاصيل حول العديد من القضايا الرئيسية، فبينما أكدت إدارة «بايدن»، أنها «ستعزز الديمقراطية في جميع أنحاء العالم» من خلال «استفادتها من مزايا ونقاط قوة واشنطن»، و«خلق تحالف لا مثيل له من الحلفاء والشركاء»؛ فإن كل التفاصيل حول كيفية تحقيق ذلك في وقت تواجه فيه «واشنطن»، سلسلة من التحديات الدولية، والمخاوف السياسية المحلية؛ «غائبة بشكل واضح». وفي حين أنها أشارت إلى ضرورة التزام «أمريكا باغتنام اللحظة والارتقاء إلى مستوى التحدي»؛ فقد أوضح محللون توخي الحذر فيما يتعلق بتطبيقها على المدى الطويل، وملاءمتها على أرض الواقع، خاصة مع إشارة «فرايد»، إلى أن «الاستراتيجيات»، أسهل في كتابتها بكثير من مسألة التنفيذ»، وأن «حتى أفضل الاستراتيجيات لا يمكن حمايتها من أية أخطاء حال تطبيقها».
على العموم، أكدت وثيقة الأمن القومي الأمريكية الالتزام بالأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع دعم الديمقراطية، وتعزيز العلاقات مع دولها التي تلتزم بمنظور واشنطن للالتزام بالقوانين الدولية. ومع عدم تقديمها أي تفاصيل جديدة حول طبيعة السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل أو إيران أو حتى دول الخليج، يشكك كل من «شابيرو»، «ويشسلر»، و«سلافين» و«فرايد»، في أن هذه الوثيقة، الغامضة في تفاصيلها، تقدم رؤية محدودة لمداولات واشنطن طويلة الأجل في منطقة دائمة التغير الجيوسياسي.