03/11/2022
ما وراء قرار أستراليا بالتراجع عن اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل
شهدت السنوات الأخيرة توجهًا متباطئا لبعض الدول بالموافقة، أو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولأن احتلال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، يتعارض مع القانون الدولي؛ فإن جميع دول العالم تقريبًا، تُبقي على وجودها الدبلوماسي في «تل أبيب»، لتجنب تقويض عملية السلام في الشرق الأوسط.
وفي اضطراب كبير في السياسة الغربية تجاه المنطقة؛ نقلت إدارة الرئيس «دونالد ترامب»، رسميًّا عام 2018، سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، بعد اعترافها الرسمي بالمدينة عاصمة لإسرائيل في العام السابق. وفي الآونة الأخيرة، بدأت «بريطانيا»، مداولاتها الخاصة، لنقل وجودها الدبلوماسي، إلى «القدس» أيضا، وهو القرار الذي قُوبل بانتقادات واسعة، بما في ذلك من وزير الخارجية السابق، السير «آلان دنكان»، الذي وصف الأمر بأنه «طائش، ومجرد من المبادئ والأخلاق»، وحذر من أنه «يمثل تحولًا أساسيًا في السياسة الخارجية للمملكة المتحدة».
واقتداءً بالقيادة الأمريكية، اعترفت حكومة «الحزب الليبرالي» الأسترالي -من يمين الوسط - برئاسة «سكوت موريسون»، رسميًّا بالقدس عاصمة لإسرائيل، في خطوة تعرضت لانتقادات شديدة في ذلك الوقت من قبل المعارضين السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان هناك. وعقب أربع سنوات، وفي قرار أثار «غضبًا إسرائيليًّا» وفقًا لـ«روبرت هارت»، في «مجلة فوربس»؛ اختارت حكومة «حزب العمال»، الأسترالية المنتخبة مؤخرًا، تغيير قرار «موريسون»، وإعادة اعتراف «كانبيرا»، بتل أبيب كعاصمة لإسرائيل وليس القدس، وإعادة تأكيد دعم القانون الدولي، وحل الدولتين، وهو الأمر الذي وصفته صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه أثار «غضب إسرائيل، في الوقت الذي أشادت به القيادة الفلسطينية ورحبت به الشعوب العربية».
وفي حقيقة الأمر، لم يكن قرار الحكومة الأسترالية الجديد، «مفاجأة». ففي عام 2018، علقت «بيني وونغ»، زعيمة المعارضة في مجلس الشيوخ الأسترالي –آنذاك- على أن حزب العمال رفض «اعتراف موريسون أحادي الجانب»، بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأنه بمجرد توليه الحكومة، سيسحب هذا القرار، «والذي وصفته بأنه «طائش»، و«مجازفة لن تأتي بمكاسب» لبلدها. وفي أكتوبر 2022، أعلنت «وونغ» بالفعل، عودة البلاد إلى موقفها «السابق والقديم»، نحو القضية الفلسطينية، وهو نهج يعيد ضبط سياسة أستراليا، باعتبار قرار بلادها السابق كان «لا يتماشى مع غالبية المجتمع الدولي».
علاوة على ذلك، أكدت وزيرة الخارجية، أن بلادها لا تزال «ملتزمة بحل الدولتين»، حيث «يتعايش» الإسرائيليون والفلسطينيون في «سلام وأمن»، داخل «حدود مُعترف بها دوليًا»، مع استمرار حكومتها في «عدم دعم نهج يقوض هذا الاحتمال». وذكرت وكالة «أسوشيتد برس»، أن مجلس الوزراء الأسترالي، «أعاد تأكيد ضرورة حل وضع القدس في مفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين». وعلى الرغم من إصرار «وونغ»، على أن بلدها «ستكون دائمًا صديقًا لإسرائيل»، فقد أكدت أنها «ستكون بنفس القدر داعمة للشعب الفلسطيني» وهي سياسة تعد من الجانب العربي والإسلامي متوازنة ومقبولة.
ومن أجل فهم قرار الحكومة الأسترالية الحالي؛ فمن الضروري وضع القرار الذي اتخذه «موريسون» عام 2018 في سياقه، حيث ادعى رئيس الوزراء –آنذاك- أنه تم الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل؛ بسبب عقبات «لا يمكن التغلب عليها»، أمام حل الدولتين، والذي أدى إلى «جمود سيء»، و«التزام مُقيد بالنهج التقليدي» للتفاوض من أجل إحلال السلام، مع الوعد بأن يتم الاعتراف بالقدس الشرقية أيضًا عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلا.
ويبقى واضحًا، أن قرار «موريسون»، قد قوبل بالرفض -في حينه- حيث اتهمه المعارضون السياسيون بالانتهازية بإعلانه قراره خلال انتخابات فرعية في ضاحية بمدينة سيدني، التي تضم ناخبين يهود كثيرين، واتهمه «بيل شورتن»، زعيم حزب العمال المعارض –آنذاك- بتقديم «مصلحته السياسية على المصلحة الوطنية، ووصف القرار بأنه «تراجع مذل»، لسجل بلاده الدبلوماسي. وبالمثل، رأى «ريتشارد دي ناتالي»، زعيم حزب الخضر –وقتها- أنه «ضربة أخرى لعملية السلام وللشعب الفلسطيني».
وعلى الرغم من أن «موريسون»، لم يصل إلى حد إعلان نقل السفارة الأسترالية من «تل أبيب»، إلى القدس، إلا أنه وصف الفكرة بأنها «معقولة»، وذكر أنه «منفتح» على مثل هذا القرار في المستقبل. ومع شرح «هارت» لذلك الأمر، أفاد بأن «موريسون»، جعل من «كانبيرا»، واحدة من عدة «أطراف دولية متشددة»، بشأن القضية الفلسطينية إلى جانب «واشنطن»، كما وصف رئيس الوزراء الأسترالي السابق، «كيفين رود»، احتمال نقل السفارة الأسترالية إلى القدس، بأنه سيكون «تراجعا سياسيًا»، يهدف في الأساس إلى «استرضاء إسرائيل، وجماعات الضغط المحلية اليمينية المتطرفة».
ووفقًا لما ذكرته «هيئة الإذاعة البريطانية»، فإنه كان من المتوقع بعد إجراء التصويت ضد «موريسون»، لخروجه من السلطة، و«الهزيمة الانتخابية الكبرى»، التي مُني بها في مايو 2022، واستبداله بزعيم حزب العمال الأسترالي «أنتوني ألبانيزِ»؛ «حدوث تحول في السياسة الخارجية تجاه القضية الفلسطينية». وأوضحت صحيفة «الجارديان»، أن «حزب العمال»، أثناء وجوده في المعارضة، أيد مرتين خلال مؤتمراته الوطنية، قرارات «الاعتراف بإسرائيل وفلسطين، وحقهما في الوجود، كدولتين داخل حدود آمنة ومعترف بها».
وبمجرد توليه قيادة الحكومة، رفض «حزب العمال»، التوقيع على بيان للولايات المتحدة، تشير فيه إلى أنها «قلقة للغاية»، بشأن تحقيق مستقل برعاية «مجلس حقوق الإنسان»، التابع للأمم المتحدة، يدين الاحتلال الإسرائيلي والانتهاكات ضد الفلسطينيين، ويعتبرها «عوامل رئيسية وراء التوترات المستمرة وعدم الاستقرار والصراع». وأشارت الحكومة الأسترالية المنتخبة حديثًا –حينها- إلى أن «انتهاكات حقوق الإنسان» في الأراضي المحتلة، و«عدم إحراز تقدم نحو حل الدولتين العادل والدائم»؛ هي الأسباب الكامنة وراء رفض «كانبيرا»، دعم الاعتراضات الأمريكية. ومن جانبه، أشاد وزير الخارجية الأسترالي السابق «غاريث إيفانز» بالقرار، باعتباره يقدم «رسالة واضحة تمامًا»، مفادها أن أستراليا «ستتبنى نهجًا لائقًا، ومبدئيًا، ومتوازنًا حيال قضايا الشرق الأوسط»، وهو أمر «تأخر كثيرًا».
بالتالي، فإن قرار حكومة «حزب العمال»، بإلغاء اعتراف دولتها بالقدس عاصمة لإسرائيل، يمكن أن يُنظر إليه على أنه استمرار لنهجها الجديد في السياسة الخارجية حيال المنطقة. وفيما يتعلق بالتغييرات التي قد تتبناها بعد ذلك، فإن القرارات المذكورة -أعلاه التي أقرتها المؤتمرات الوطنية لحزب العمال الأسترالي عامي 2018 و2021- دعت أيضًا إلى الاعتراف بفلسطين كدولة. «وعلى الرغم من أن «دانيال هيرست»، في صحيفة «الجارديان»، حذر من ذلك، فإن تلك العبارة «لم تحدد موعدًا نهائيًا محددًا» للقيام بذلك، ما يعني أنه من غير المحتمل أن يكون مثل هذا القرار وشيكًا.
وفيما يتعلق بردود أفعال المراقبين حول قرار «كانبيرا»، فقد جاءت «داعمة»، و«مؤيدة»، بشكل كبير. ورحب «بن سول»، من جامعة «سيدني»، به باعتباره «يعيد أستراليا إلى التوافق مع المجتمع الدولي، وكل المجتمع العالمي تقريبًا»، مضيفًا أن القرار القديم كان «استفزازيًا، ومزعزعًا للاستقرار»، وأظهر «الانحياز إلى إسرائيل، كما أنه ضد الحقوق المتساوية للفلسطينيين». فيما أشاد به «نـاصـر مـشـنـي»، من شبكة «أسـتـرالـيـون من أجــل فلسطين»، باعتباره يعيد البلاد إلى «الإجماع الدولي»، و«يغير مسارها عن الموقف السياسي الخطير للحكومة السابقة». وتعقيبا على هذا الأمر، قال «ستيف هندريكس»، في صحيفة «واشنطن بوست»، إن «أستراليا التي كانت من أول الدول اعترافا بالقدس عاصمة لإسرائيل، «تتراجع الآن»؛ وبالتالي سيكون هناك احتمالات واضحة حول تفكير دول أخرى بفعل الأمر نفسه.
وتجدر الإشارة إلى أن «الولايات المتحدة»، وكل من «كوسوفو»، و«هندوراس»، و«غواتيمالا»، من أبرز الدول التي نقلت سفاراتها الدبلوماسية إلى القدس حتى الآن، في الوقت الذي استبعدت فيه العديد من الدول الأوروبية تلك الخطوة. وعلى الرغم من الضغوط السياسية من الجناح اليساري للحزب الديمقراطي؛ إلا أن إدارة «بايدن»، اختارت عدم التراجع عن قرار سابقتها بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. وبالإضافة إلى إعادة تأكيد دعمها لإسرائيل، فإن «واشنطن»، أصبحت، «معزولة بشكل متزايد عن الساحة العالمية، بشأن مقاربتها إزاء هذه القضية».
علاوة على ذلك، فإن موقف أستراليا تجاه إسرائيل، يتناقض مع مسار «المملكة المتحدة» في هذا الشأن. وأشارت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، إلى «تداعيات احتمال نقل السفارة البريطانية»، من تل أبيب إلى القدس. وقد قوبلت مثل هذه الخطوة، بانتقادات واسعة من شخصيات حكومية، وسياسية رفيعة المستوى. وعلق السير «آلان دنكان»، أنه إذا كانت «لندن»، ستنقل وجودها الدبلوماسي إلى القدس، فإن هذا من شأنه «تدمير»، سمعة البلاد، فيما يتعلق باحترامها للقانون الدولي، وبالتالي، سيقوض «مكانتنا في العالم». في حين أشار وزير الخارجية السابق، «أليستير بيرت»، إلى أن هذه الخطوة، «ستنتهك القانون الدولي»، و«تتعارض مع قرارات الأمم المتحدة، بشأن احتلال الأراضي الفلسطينية».. ففي حين تحث لندن «الدول الأخرى على العمل بشكل متعدد الأطراف، والوفاء بالتزاماتها الدولية»، فإنه «سيُنظر إليها على أنها تتراجع عن التزاماتها».
على العموم، فإنه مع إمكانية التشكيك في التأثيرات النهائية لدور الحكومة الأسترالية على عملية السلام في الشرق الأوسط؛ إلا أنه لا يمكن إنكار، أنه وسط تزايد الدعم الحكومي الغربي لإسرائيل وتزايد الدعم الشعبي للفلسطينيين؛ فإن قرار «حزب العمال»، الحاكم، بإلغاء قرار الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل، يدل على أنه «لا تزال هناك حكومات في الغرب، تسعى إلى تبني خيار حل الدولتين، القابل للحياة، وملتزمة بعدم تقويض عملية السلام، عبر اعتماد قرارات تهدف في المقام الأول إلى استرضاء شعوبها المحلية ومنظمات المجتمع المدني فيها.
ويبقى أن نرى ما إذا كان القرار الأسترالي، سيؤثر في الدول الأخرى ممن نقلت سفاراتها إلى القدس، لتبني هذا النهج، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والسير مع توجهات المجتمع الدولي.