23/4/2019
تداعيات التحولات السياسية في الجزائر والسودان
تعدّدت التحليلات السياسية حول الحراك الشعبي في الجزائر ضد إعادة انتخاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، وفي السودان ضد الرئيس عمر البشير، والذي نتج عنهما تنحية القائدين؛ بين من يرى أنهما نموذجان يمثلان انعكاسا للاضطرابات التي وقعت عام 2011. فيما يُسمى بـ«الربيع العربي»، وبين من يرى تفرد التجربتين.
وكان أول من أُسقط هو الرئيس الجزائري، في الثاني من أبريل، بعد تصاعد الضغوط الشعبية لإنهاء فترة حُكمه التي امتدت إلى ما يقرُب من عشرين عامًا، وسُرعان ما تبعه الرئيس السوداني، في الحادي عشر من أبريل، والموجود بالحكم منذ عام 1989. وكانت الاحتجاجات قد بدأت في السودان في ديسمبر2018. تعبيرًا عن تدهور الظروف الاقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وانخفاض الأجور، كما بدأت في الجزائر منذ فبراير2019. على خلفيات سياسية ضد إعادة انتخاب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة.
وعلى عكس ما جرى عام 2011. وقفت القوى الغربية موقفا حذرا. وفي هذا الصدد، يقول «جورج فهمي»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، «حملت تطورات الأحداث في العراق وسوريا وليبيا واليمن، القوى الخارجية على مراجعة سياستها، حيث لم تدعم أي منها تلك الأحداث مثلما الحال في 2011». وكانت الإدارات الأمريكية قد انتهجت منذ كلينتون التبشير بالليبرالية العالمية، إلى جورج بوش الابن الذي تبنى خط التدخل الخارجي لفرض مشروع (الشرق الأوسط الكبير) إلى أوباما ورعايته للربيع العربي.
وعليه، حاول العديد من المحللين ربط الأحداث التي وقعت في الدولتين، بما حدث عام 2011. بما يُسمى «الربيع العربي»، في محاولة للتأكيد أنها تمثل الفصل الثاني من تلك الثورات والتقلبات. يقول «جورج فهمي» أيضًا إن «الاحتجاجات في كلتا الدولتين أعادت ذكريات الاحتجاجات التي اجتاحت الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عام 2011. ما يدفعنا إلى القول إنها الموجة الثانية منها». وقالت صحيفة «نيويورك تايمز»، إنه «بعد أن تلاشت آمال الربيع العربي 2011 في التغيير، فإن المشاهد القادمة من السودان والجزائر تؤكد أنه يتجدد». ونشرت صحيفة «التايمز»، أن «رحيل رئيسي السودان والجزائر قد يفتح الطريق إلى الإصلاحات التي طال انتظارها». وتساءل «إيشان ثارور» في صحيفة «واشنطن بوست»، «هل هناك ربيع عربي جديد في الطريق؟». وأكد «مارك لينش» بنفس الصحيفة، أن «التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه كل الأنظمة في الشرق الأوسط تقريبا اليوم أسوأ من حيث حجمها عما كانت عليه عام 2011. وهو الأمر الذي جعل من الاحتجاجات تنتشر كالعدوى».
ولعل كل التحليلات التي تقرأ المشهد على أنه موجات جديدة لما سُمي الربيع العربي، قائمة على تشابه الصورة بين المرحلتين فقط، حيث لا يمكن الربط بينهما من دون الأخذ بعين الاعتبار ما حدث بين الزمنين. ولا شك أن الكثير قد حل بالعالم العربي خلال السنوات الثماني الماضية، وعلى رأسها الأزمة السورية، وانقلاب الحوثيين في اليمن، والحرب التي تبعته، وتوسع النفوذ الإيراني السلبي في المنطقة، وتراجع فرص قيام الدولة الفلسطينية، بسبب السياسات الإسرائيلية والأمريكية المكرسة للاحتلال، فضلا عن ظاهرة «داعش» والدمار الذي جلبه التنظيم الإرهابي للمنطقة وهو ما أدرك الشارع العربي معه أن هذه الأحداث لم تكن حقيقية ولا واقعية، لا على مستوى القوى التي أفرزتها ولا على مستوى المآلات التي انتهت إليها.
بشكل عام، كان المحرك لأحداث عام 2011 هو القوى الخارجية، فيما لم تحمل سقفًا ولا إطارًا لمشروعها ولا تصورًا واضحًا لما تريد أن تكون عليه، لأنها لم تكن داخلية خالصة؛ ما جعل من الصعب إعادة انتهاج هذا السيناريو مرة أخرى.
وتبعًا لذلك، فإنه لا توجد هناك احتمالية لحدوث أمر مماثل في الجزائر والسودان؛ ذلك أن المتظاهرين في كلتا الدولتين لم يحتشدوا من خلال جماعات منظمة أو مسلحة تسليحًا جيدًا. وكما أوضحت مجلة «ذي إيكونوميست»، «أصبحت المعارضة الرسمية السودانية أقل انقسامًا عما كانت عليه في السابق، لكنها لا تمتلك قائدًا صريحًا حتى الآن». وينطبق الشيء نفسه على الجزائر التي توجد فيها «معارضة غير منظمة وبلا قيادة». وهو ما يجعل على الحكومة المؤقتة إجراء إصلاحات تدريجية كافية تلبية لمطالب المتظاهرين الذين لا يهدفون إلى استخدام العنف، بالنظر إلى أن الاحتجاجات كانت سلمية في معظمها في كلا البلدين.
فضلا عن أن هناك اتفاقا بين النخب العسكرية التي تحكم كلا البلدين بصورة مؤقتة الآن على ضرورة تخطي التحديات التي مثلتها تلك الاحتجاجات. ففي الجزائر، يُعد الجيش متفقا كليا على تولي زمام الحكم ومدركًا لكيفية إدارته للحياة السياسية. وتوضح «سابينا هينبرج»، من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، أن «الجيش ما زال يعد نفسه حاميا للجزائر وضامنًا لوجود حكومة مدنية». ويُشير هذا إلى أن الحكومة العسكرية المؤقتة ستسمح بإجراء الانتخابات في يوليو، كما وعدت، وستضمن هذه الانتخابات الانتقال السلمي إلى الحكومة المدنية.
ومع ذلك، فإن احتمالية انزلاق الأوضاع في السودان إلى نزاع داخلي أكبر بكثير. يقول «زاك فيرتين»، من «معهد بروكينجز»، «دائمًا ما كان الخلاف هو سيد الموقف بين المدنيين والسقراطيين والإسلاميين والعلمانيين والاشتراكيين والرأسماليين في السودان». وهذه الاختلافات حول الكيفية التي ينبغي أن يُحكم بها البلد، قد تتسبب في نزاع على السلطة. وتوضح «سوزان ستيغانت»، في مجلة «فورين بوليسي»، أنه «لا يوجد اتفاق حول من سيُشارك ومن سيخرج من دائرة إدارة الحكم، كما أن هناك خطرا بتصاعد العنف بين تلك الفصائل». وفي هذا الإطار، يقول «باتريك جاثارا» في صحيفة «واشنطن بوست»، أنه «إذا لم تُوضع خطة للخطوة التي يجب أن تخلف ذلك، فهناك خطر حقيقي من أن تدور الثورة في دوائر أخرى».
ويوضح «إيشان ثارور»، في صحيفة «واشنطن بوست»، «قد يكون الخطر أقل وطأة في الجزائر، حيث تريد النخبة العسكرية الجزائرية تجنب تكرار سيناريو الحرب الأهلية المؤلمة بين النظام والقوات الإسلامية والتي خلفت ما يصل إلى 200.000 قتيل خلال حقبة التسعينيات». «لكن السودان الذي مزقته الصراعات العرقية، وفي ظل ما يعانيه من فوضي جيوسياسية إقليمية؛ ممكن أن يكون على حافة الاضطراب».
ووفقا للتقرير الصادر عن «مجموعة الأزمات الدولية»، ببروكسل، فإن السودان يحتل موقعا استراتيجيا في إفريقيا، ويحيط به جيران يواجهون صعوبات داخلية، وإذا انحدر إلى الفوضى، فإنها من الممكن أن تتجاوز حدوده». وتوضح «برونوين بروتون»، من «المعهد الأطلسي»، بواشنطن، أنه «في حال تم تمكين قيادة إصلاحية في السودان، وسُمح للمعارضة السياسية والمجتمع المدني بالتنظيم والنمو بقوة كافية لإجراء انتخابات ذات مصداقية؛ فإن تبعات ذلك على المنطقة سيأتي بالإيجاب، أما إذا تفكك، فإن الآثار ستكون وخيمة على جيرانه»؛ وتحديدًا في كل من الشرق الأوسط العربي والبلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى».
وتبقى مصر وليبيا الأكثر عرضة للخطر؛ مع ما تمتلكه كل منهما من حدود ممتدة وغير مستقرة مع السودان. ومن المُحتمل أن تشهد ليبيا، التي مزقتها بالفعل حرب أهلية طويلة تصاعدا للعنف وعدم الاستقرار، حيث من المحتمل أن تسمح حدودها التي يسهل اختراقها باستغلال الفوضى في المناطق الجنوبية لتهريب المخدرات والأشخاص والاتجار بالأسلحة.
وعلى الرغم من أن مصر بعيدة بشكل واضح عن آثار أي نزاع أهلي في السودان، فإنها ستواجه آثار ما يحدث في السودان. وعلى أغلب الظن قد ينتج عن مثل هذه الأوضاع، فقدان السودان باعتبارها وسيطًا إقليميا يتسم بالاستقرار والقوة بين القاهرة وأديس أبابا خلال نزاعهما بخصوص سد النهضة في ضوء أن الخرطوم لديها مصالح وعلاقاتها التي تربطها بالدول التي يمر النهر بأراضيها.
وبعيدًا عن مصر وليبيا، فإن إشارة بعض المحللين إلى أن الأحداث التي تشهدها كل من الجزائر والسودان ما هي إلا إشارة على عودة ما سُمي بالربيع العربي، هو ما يؤكد التوقعات بوقوع المزيد من الاحتجاجات عبر المنطقة. وفي هذا الصدد، يقول «كارل ماير» من «وكالة بلومبيرج»، الأمريكية، «إن صور مئات الآلاف من المتظاهرين في كل من العاصمتين السودانية والجزائرية أعادت إلى الأذهان أحداث الثورتين التونسية والمصرية، ما يؤكد تأثرهما بعدوى نظيرتها خلال عام 2011».
وعلى الرغم من ذلك، أشار عدد من المحللين إلى أن انتشار موجة التظاهرات عبر العالم العربي من غير المرجح لها أن تتصاعد وتيرتها. ويرجع هذا في المقام الأول إلى أن الظروف والأوضاع الداخلية لقيامها غير مواتية في الوقت الراهن. كما أن الدول التي عانت في البداية من الاحتجاجات، بدأت الآن تنعم بالاستقرار، مثل تونس ومصر. وبات واضحا بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك الاحتجاجات لم تصل إلى مرادها في كل من دمشق وطرابلس وصنعاء؛ حيث انخرطت في صراع أهلي لا يمت بصلة لما نادت به. وعلى الجانب الآخر، هناك دول جنبت نفسها كل تلك الظروف الاقتصادية والسياسية التي أشعلت وميض هذه الاضطرابات، ومنها المغرب والأردن، ودول مجلس التعاون الخليجي، والتي ما زالت تتسم بالقوة ومن غير المتوقع أن تواجه احتجاجات مثل التي تعرضت لها كل من السودان والجزائر.
وفي النهاية، هناك ثلاثة عناصر أساسية ستحكم على المرحلة الانتقالية في السودان والجزائر، ومصير التغييرات التي تشهدها البلدان. الأول: هو قدرة المؤسسات في الدولة، مثل الجيش، على وضع الأرضية السليمة للانتقال. وعادة ما ينظر إلى الجيش على أنه الحامي للدولة ومؤسساتها، وقد أثبت الواقع أنه عادة ما يمثل المؤسسة الأكثر انضباطا في الجمهوريات العربية، وفيه تراتبية تسمح بالقيادة والانضباط. والثاني: هو ضبط الشارع بغرض تأمين البلاد، وليس لغرض قمع الحريات. أما الثالث: فهو تأمين العيش الكريم للمواطن.
على العموم، تشير حقيقة افتراض تولي زمام ومقاليد الحكم من قبل شخصيات قريبة من البشير وبوتفليقة إلى أنه باستثناء بعض التغييرات الطفيفة لاسترضاء مطالب المعارضة، فإن النظرة الأساسية أو السياسات التي قد كانت تتبعها كل دولة لن تتغير كثيرًا عما كانت عليه. والحل لا يكمن في هوية المرشح القادم، الذي سيشغل منصب الرئاسة، بل يكمن في وضع القوانين والآليات للانتقال السلمي للسلطة وبشفافية الآن ومستقبلاً.