top of page
19/4/2019

استقرار السودان.. ضرورة عربية

دائما ما يحظى السودان باهتمام كل القوى الإقليمية والدولية، خاصة الدول العربية التي أكدت دعمها ومساندتها له؛ لتجاوز ضائقته الاقتصادية التي يعيشها حاليا، وأدت إلى اندلاع الاحتجاجات به. وأكدت هذه الدول عبر زيارات واتصالات وبيانات وقوفها معه واستعدادها لتقديم كل الدعم لمساعدته على تجاوز محنته، كما أكدت حرصها على استقراره وتعزيز أمنه؛ باعتبار أن أمنه من أمن الدول العربية. ومن ثمّ، لم يكن غريبًا أن تبادر المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات ومصر، بتقديم المساعدات الإنسانية، وإعلان دعم خيارات الشعب السوداني ومسعاه لرسم خريطة المستقبل. 
ويشهد السودان منذ أربعة أشهر تقريبًا، موجة احتجاجية، كانت الأوضاع الاقتصادية السبب المباشر في إشعالها، وأخذت هذه الموجة في التصاعد حتى أعلن وزير الدفاع السوداني يوم 11 أبريل 2019 إزاحة البشير وتولي المجلس العسكري الانتقالي حكم البلاد. وإذا كانت فترة الأربعة أشهر الماضية قد زادت الأوضاع الاقتصادية المتردية سوءًا، فإن سرعة تحقيق الاستقرار والسيطرة على الأمور هي المفتاح الأول لإمكان معالجة هذا الأمر، اعتمادًا على عمق السودان العربي. وفي المقابل، فإن التردي إلى حالة الفوضى من شأنه تهديد هذا العمق العربي، وإحداث المزيد من التفكيك لهذا القطر، بعد أن راح عنه جنوبه الثري بموارده الطبيعية.
وتسعى قوى كثيرة لإحداث الفوضى في السودان، مثل القاعدة وداعش، وإيران، وجماعات الإسلام السياسي العديدة، استنادًا إلى تاريخ طويل من نفاذها إلى هذا القطر والتوطن فيه اعتمادًا على اتساعه والانطلاق منه لممارسة نشاطها الخارجي، وخاصة في مصر وليبيا واليمن، وهو ما يعرض أمن هذه الدول للخطر، ويفتح مساحة كبيرة لتمدد جماعات الإرهاب، ويعزز النشاط الإيراني عبر الحوثيين ليس في اليمن فقط، ولكن بمد هذا النشاط إلى السودان.
وحتى ينتعش السودان اقتصاديًا ويخرج من أزمته التي أطلقت الموجة الاحتجاجية، يحتاج إلى المزيد من الاستثمارات العربية، وهذه الاستثمارات حتى تتحقق في حاجة إلى فسحة استقرار، وهي تعرف وجهتها تمامًا وعلى رأسها القطاع الزراعي. وكل البلدان العربية الراغبة في هذا الاستثمار لديها إشكالية الأمن الغذائي، في حين أن السودان لديه الموارد التي تحل هذه الإشكالية غير أن تاريخا طويلا من الاحتراب الأهلي وعدم الاستقرار عطل قدوم هذه الاستثمارات، وظلت عبارة «السودان سلة غذاء الوطن العربي» تتناولها الأقلام فقط من دون أن تجد ترجمة على أرض الواقع.
ويمتلك السودان مساحة قابلة للزراعة هي الأكبر على مستوى الوطن العربي، تبلغ نحو 175 مليون فدان، إلى جانب مساحة غابات تبلغ 57 مليون فدان، وتقدر مساحة المراعي الطبيعية بـ 118 مليون فدان، ترعى فيها أكثر من 102 مليون رأس ماشية. ومنذ استقلاله عام 1956 لم تجد هذه الثروات التي يحتاج إليها الوطن العربي والذي يعاني حالة انكشاف في أمنه الغذائي طريقها للاستثمار عربيا، رغم المحاولات.
ومع غياب الاستثمار أو قلته لجأ السودان إلى معالجة إشكاليات قصور الموارد المالية المتاحة عن طريق الاستدانة الخارجية، حتى بلغت هذه الديون في عام 2018 قرابة 56 مليار دولار، وزاد من هذه الإشكاليات، وضعه على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ 1993. وفرض عقوبات اقتصادية عليه منذ عام 1997، والتي كان من شأنها امتناع المصارف العالمية عن التعامل معه، وحرمان مصارفه من استقبال أو إرسال أي تحويلات. وظلت هذه العقوبات حتى عام 2018 حين رفعتها واشنطن، ولكن القرار لم يشمل الرفع من قائمة الدول الراعية للإرهاب، فيما عزز انفصال جنوبه عام 2011 من الأزمة الاقتصادية، إذ حرم من نحو 75% من موارده النفطية و80% من موارد النقد الأجنبي، و50% من إيراداته العامة.
ولعل الإدراك العربي لأهمية السودان في تحقيق الأمن الغذائي، كان وراء إنشاء «المنظمة العربية للتنمية الزراعية» عام1970 واتخاذها الخرطوم مقرًا لها، والتي بدأت عملها عام 1972. وعام 1980 أصبحت كل الدول العربية أعضاء بها. ولكن الحروب الأهلية التي شهدها منذ 1955 وحتى توقيع «اتفاقية نيفاشا للسلام» عام 2005. التي قضت باقتسام السلطة والثروة بين حكومة رئيس السودان «عمر البشير» وقائد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان «جون قرنق»، عطلت فاعلية هذه المنظمة في استقدام الاستثمارات العربية لتحقيق أهدافها. وبعد انفصال الجنوب أخذت الحركات الانفصالية تنشط في مناطق أخرى خاصة دارفور، ووجدت من يساعدها من الخارج، وهو الأمر الذي خلق بيئة غير مستقرة سياسيا وأمنيا، كان من الصعب الاستثمار فيها، خاصة مع استمرار العقوبات الاقتصادية.
وحين أخذت الأمور تهدأ نسبيا عام 2013. وفي إطار الترويج لجذب الاستثمارات الأجنبية؛ أصدرت الحكومة قانون الاستثمار ودليلاً بالإجراءات الخاصة به. وطبقًا لتقرير «المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات»، احتل السودان المرتبة الخامسة عربيا من حيث الاستثمارات الواردة إلى البلاد العربية، وأصبحت السعودية صاحبة أكبر الاستثمارات الزراعية، وكان أبرز مشروعاتها شركة سكر كنانة. وفي عام 2018 أطلقت السعودية والسودان مشروع شراكة جديدة في المجال الزراعي، لتحقيق مبادرة الأمن الغذائي العربي، التي يعول عليها كثير من الدول العربية في تخفيض فاتورة وارداتها الغذائية، كما يعول عليها السودان لاستغلال موارده الزراعية التي لا يزيد المستغل منها على 20%. واقترن إطلاق هذه الشراكة بإعادة جدولة الديون السودانية المستحقة للصندوق السعودي مدة 40 عاما. وفي عام 2019 قدرت الاستثمارات السعودية في السودان بأكثر من 12 مليار دولار، ويقود هذه الاستثمارات مجلس أعمال مشترك من اتحاد أعمال السودان والغرفة الوطنية التجارية السعودية.
أما الاستثمارات الإماراتية، فقد توجهت إلى مجالات القمح والأعلاف. وفي عام 2018 ارتفع حجمها إلى أكثر من 28 مليار درهم، فيما تعمل 17 شركة إماراتية في القطاعات الاقتصادية المتنوعة. ويعتبر «صندوق أبوظبي» من أكبر المؤسسات تمويلاً للمشروعات التنموية في السودان بإجمالي تمويلات تقدر بـ7.3 مليارات درهم، في 17 مشروعًا تشمل أكثر القطاعات حيوية وتأثيرًا بما فيها الصناعة والري والنقل والمواصلات. وقام الصندوق بدعم الاحتياطي النقدي للبنك المركزي من خلال إيداع نحو 5 مليارات درهم. وإلى جانب دعم ميزان المدفوعات، ركز على تمويل المشروعات ذات التأثير الشامل والتي يمتد أثرها ليشمل قطاعات، مثل مشروعات السدود لإنتاج الطاقة الكهربائية وتوفير مياه الري، ومطار الخرطوم، وشبكة السكك الحديدية. هذا في الوقت الذي تقوم فيه شركة بترول أبوظبي الوطنية منذ 2017 بتزويد السودان بكميات من وقود الديزل لتلبية احتياجاته بقيمة بلغت نحو 3.2 مليارات درهم، في حين تجاوزت استثمارات القطاع الخاص الإماراتي 18 مليار درهم من خلال 17 شركة إماراتية نشطت في مجالات الزراعة والسياحة والطيران والنفط والغاز.
أما مملكة البحرين، فقد وقعت في فبراير 2015 اتفاقية مع السودان بشأن مشروع «خيرات البحرين» بالولاية الشمالية في إطار التعاون الثنائي بين البلدين في مجال الأمن الغذائي. ويقام هذا المشروع على مساحة 100 ألف فدان (42 ألف هكتار)، تتسع لعدد من المشاريع الزراعية لسد حاجة السوق المحلي البحريني والتصدير. وقامت المملكة بدراسة جدوى المشروع بالتعاون مع بنك التنمية الإسلامي، وشجعت القطاع الخاص للدخول كشريك استراتيجي في التنمية. وفي ديسمبر 2018 أعلنت شركة «ممتلكات البحرين القابضة» أن المملكة ستبدأ جني ثمار هذا المشروع، اعتبارًا من 2019 بما يسهم في تعزيز منظومة الأمن الغذائي في مجالي الثروة الزراعية والحيوانية. ويعد مشروع «خيرات البحرين» أول استثمار زراعي لشركة «ممتلكات البحرين» خارج المملكة.
وكان وزير الاستثمار السوداني «مبارك الفاضل المهدي» قد أعلن، في نوفمبر 2017 لدى مشاركته في المنتدى الإفريقي للأعمال الذي نظمته غرفة تجارة وصناعة دبي، حاجة العلاقات الاستثمارية بين مصر والسودان إلى دفعة كبيرة، مؤكدا أن هناك نحو 100 مليون فدان بالسودان جاهزة أمام المستثمرين المصريين بما يحقق الاكتفاء الذاتي لمصر أكبر البلاد العربية سكانًا في الكثير من المحاصيل الزراعية. ووفقا لتقرير حكومي مصري، تبلغ حجم الاستثمارات المصرية في السودان 10.1 مليارات دولار في 2016. تتوزع على 229 مشروعا، منها 122 مشروعا صناعيا و90 مشروعا خدميا و17 مشروعا زراعيا.
ومن هنا، نقرأ التصريحات التي صدرت مؤخرًا عن الدول الأربع؛ «السعودية والبحرين والإمارات ومصر»، والتي سارعت بإعلان تضامنها مع الشعب السوداني ورحبت بتسلم الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئاسة المجلس العسكري الانتقالي في خطوة تجسد تطلعات الشعب للأمن والاستقرار والتنمية، والخطوات التي اتخذها المجلس للمحافظة على الأرواح والممتلكات، ودعوتها للقوى السياسية والشعبية والمهنية والمؤسسة العسكرية إلى الحفاظ على المؤسسات الشرعية وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة والحفاظ على الوحدة الوطنية.
وفي الأخير، إذا كانت مصر تعتبر المساس باستقرار السودان خطا أحمر لأن غياب هذا الاستقرار يصب مباشرة في تهديد أمنها؛ فإن غياب هذا الاستقرار يغري بمد نشاط الجماعات المدعومة إيرانيا في اليمن إلى السودان، كما يغري بتمدد الجماعات الإرهابية في ليبيا إلى السودان، ومن ثم مضاعفة التأزم الحاصل في كل من اليمن وليبيا، واستمرار تهديد الإرهاب للأمن القومي العربي. وبالنظر إلى موقعه الاستراتيجي في القرن الإفريقي، وفي ضوء أن العلاقة بين الخرطوم والدول العربية محورية وذات طبيعة تكاملية، فإن استقرار السودان وأمنه يعتبر امتدادا لأمن الدول العربية، ما يستوجب دعمه ومساندته. 
 على العموم، إذا كانت دول الخليج تحتل رأس قائمة المستثمرين في السودان بهدف تحقيق الأمن الغذائي، فإن أهميتها تكمن أساسًا في دعم استقرار السودان، باعتبار ذلك ضرورة أمنية عربية. فالسودان الذي يجاور اليمن عبر البحر، ويجاور مصر وليبيا برًا، إن لم يتحقق له الاستقرار سيكون مصدرًا لتهديد أمن هذه البلاد؛ ولهذا، فإن متابعة تطور الأحوال السياسية والاقتصادية فيه لا تعد شأنًا سودانيًّا خالصًا، ولكنها شأن الأمن القومي العربي في الأساس. 

 

{ انتهى  }
bottom of page