26/12/2022
أسعار موارد الطاقة بين قوى السوق وقوى السياسة
نعني بموارد الطاقة هنا النفط والغاز، ومن المعلوم أنه في سوق المنافسين فإن سعر أي سلعة هو محصلة تفاعل بين قوى العرض والطلب. أما إذا كانت هذه السوق تحكمها احتكارات، وليس لهذه السلعة بدائل، فإن هذه الاحتكارات من جانب البائعين تستطيع التحكم في مستوى العرض، ليرتفع السعر إذا ظل الطلب على ما هو عليه أو زاد، وتستطيع هذه الاحتكارات من جانب المشترين أن تتحكم في مستوى الطلب، لينخفض السعر إذا ظل العرض على ما هو عليه أو زاد.
ولا تتمتع سلعتا النفط والغاز بدرجة مرونة عالية، تجعل من الممكن في الأجل القصير استبدال أحدهما بالآخر، أو استبدالهما بموارد طاقة أخرى، فلكل منهما بنية تحتية عالية التكلفة في إنتاجه ونقله واستخدامه، كما أن لكل منهما استخدامات لا يستطيع أي منهما أن يحل محل الآخر فيها في الأجل القصير، ومازال كلاهما يمثل المصدر الرئيسي للطاقة في عالمنا المعاصر بأسبقية النفط على الغاز.
وفيما سجل استهلاك الطاقة أعلى زيادة له العام الماضي بنسبة 5,5%، وهو ارتفاع تاريخي بحسب «بريتش بتروليم»، حيث يعد الأعلى منذ 50 عامًا، فقد استهلك العالم في هذا العام 94,1 مليون برميل نفط يوميًّا، بزيادة بنسبة 6% عن عام 2020، ونما إنتاج النفط العالمي بمقدار 1,4 مليون برميل يوميًا، فلا يزال النفط يمثل ما يقرب من ثلث استهلاك الطاقة في العالم. وهو الأمر ذاته بالنسبة إلى الغاز، ففيما شهد عام 2021 نموًا بنحو 5,3% في الطلب العالمي عليه، فإن حصة الغاز الطبيعي من إجمالي الاستهلاك العالمي للطاقة تبلغ نحو 24%.
وفي سلسلة العقوبات الغربية على النفط والغاز الروسي - في إطار الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا- سعت القرارات الغربية إلى تقليص بل وإلغاء اعتماد أوروبا على نفط روسيا وغازها، فيما كانت البنية التحتية لتصدير النفط والغاز الروسي قد سارت على أساس استبعاد هذا الاحتمال، في ضوء ارتفاع نسبة الاعتماد الأوروبي على هذا المصدر، وعدم وجود بدائل معوضة في الآجل القصير. فبعد أيام من بداية الحرب الروسية الأوكرانية، حظرت الولايات المتحدة واردات النفط والغاز الروسية المتوجهة إلى الولايات المتحدة، وأعلن الاتحاد الأوروبي نيته تخفيض وارداته من الغاز الروسي بنسبة الثلثين، وأكدت بريطانيا أيضًا نيتها إيقاف وارداتها من الطاقة الروسية بشكل تدريجي بحلول نهاية 2022.
وتم البدء في أوائل ديسمبر سريان الحد الأقصى الذي فرضته مجموعة السبع على سعر النفط الروسي المنقول بحرًا عند 60 دولارا للبرميل، في محاولة من الغرب للحد من قدرة موسكو على تمويل حربها في أوكرانيا، وتنص آلية سقف السعر على فرض هذا السقف على سعر النفط الروسي المباع لدول أخرى، فيما قدرت مكاسب روسيا من مبيعاتها النفطية إلى أوروبا منذ اندلاع الحرب حتى صدور قرار التسقيف بـ 67 مليار يورو، وحين صدور هذا القرار بالتسقيف كان متوسط سعر النفط الروسي الخام، وهو المعروف بخام الأورال هو 65 دولارا للبرميل.
وكانت دول الاتحاد الأوروبي قد وافقت في 19 ديسمبر، على قرار فرض سقف سعر للغاز الروسي، ليدخل هذا القرار حيز التنفيذ من منتصف فبراير 2023، ويبلغ هذا السقف 180 يورو للميجاوات/ساعة. ويعد فرض السعر من جانب مشترين غير محتكرين للشراء، تدخلًا في عمل قوى السوق المُنوط بها تحديد الأسعار، ويعني بدء التنفيذ في فبراير، وليس فورًا، إتاحة مهلة لروسيا في مجرى الصراع الدائر في أوكرانيا، أي أنه يحمل من معاني التهديد أكثر مما يحمل من معاني التنفيذ الفعلي، خاصة مع الصعوبات التي تكتنف هذا التنفيذ.
ومن المعلوم أن آبار الغاز الروسية ترتبط بشبكة أنابيب ضخمة مع أوروبا، وحتى العام الماضي كان الغاز الروسي يزود أوروبا بأكثر من 40% من استهلاكها، وبلغت صادرات روسيا من الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي العام الماضي نحو 155 مليار متر مكعب. ومنذ بدء الحرب حتى نهاية أكتوبر 2022، خفضت أوروبا التي كانت في طريقها لترشيد الاستهلاك والبحث عن مصادر بديلة، من اعتمادها على الغاز الروسي من 40% إلى 7%، بحسب مفوض السياسة الخارجية والأمن للاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل».
وفيما وافق الاتحاد الأوروبي على حظر معظم واردات الخام والمنتجات النفطية الروسية المنقولة بحرًا ضمن حزمة العقوبات على روسيا، فقد استثنى من ذلك الحظر الكميات المنقولة عبر الأنابيب، هذا بالرغم من أن صادرات النفط الروسية إلى أوروبا تمثل ما يقرب من نصف إجمالي صادرات روسيا من النفط الخام ومنتجاته، وبلغت كمية الصادرات الروسية للاتحاد الأوروبي 2,2 مليون برميل من النفط الخام يوميًا، منها 0,7 مليون برميل يوميًا عبر الأنابيب، و 1,2 مليون برميل يوميًا منتجات نفطية، منها 0,5 مليون برميل يوميًا من الديزل.
ويفترض تحديد السعر من جانب المشترين حتى يكون فعالًا ومؤثرًا، ألا يكون هناك مشترون آخرون، أو إن البائع سوف يأخذ وقتًا طويلًا حتى يعثر على مشترين آخرين، كما يفترض أن هذا التحديد سوف يلقي بتبعاته على أسعار هذه السلع عامة في الأسواق، والتساؤل هنا: ما نتيجة هذه القرارات؟ هل أثّر تحديد سقف لسعر النفط الروسي في أسعار النفط العالمية؟ وهل لم تجد روسيا مشترين آخرين لنفطها؟ وماذا عن الغاز؟
بداية، فإن سعر 60 دولارا للبرميل هو مستوى أعلى بكثير من تكلفة الإنتاج الروسي الحالية، ما يعني أن السعر مجزِ، وقد أتاح تحديد السقف لروسيا أن تبيع نفطها في أوروبا، ما يعني أنه لن يكون له تأثير في كمية المعروض، كما أن هذا السقف يتيح للنفط الروسي فرص كبيرة لتوسيع أسواقه لدى الدول النامية والناشئة، وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي عند وضع آلية التسقيف، مراجعة السعر كل شهرين مع إمكانية تعديله، بحيث يكون دائمًا عند مستوى يقل بنسبة 5% عن متوسط سعر السوق. وتقتضي المراجعة موافقة دول مجموعة السبع وأستراليا وكل أعضاء الاتحاد الأوروبي الـ 27، وفيما تهيمن الشركات الأوروبية على نقل وتأمين ناقلات النفط، فإنها تجد في ذلك أداة لامتثال كل المشترين لقرار التسقيف، وسيكون من الصعب على روسيا إيجاد بديل في الأجل القصير إذا لجأت إلى ناقلاتها، ولدى دخول العمل بهذا التسقيف، أعلنت «أوبك بلس» التزامها بأهدافها المتعلقة بإنتاج النفط.
لكن لم يؤدْ تحديد سقف سعر الخام الروسي - برغم حصة روسيا الكبيرة في سوق النفط العالمي- إلى انخفاض أسعار النفط، حيث تجاوزت أسعار «خام برنت» 82 دولارا للبرميل، و«غرب تكساس» 78 دولارا للبرميل في بداية الثلث الأخير من ديسمبر 2022، هذا برغم استخدام مخزونات النفط الأمريكية للتأثير في مستوى المعروض في السوق.
ومنذ دخول النفط والغاز الروسي في مسار العقوبات الغربية، وروسيا تتوسع في الأسواق البديلة، وزادت بشكل كبير كمية النفط التي تصدرها إلى دول آسيا، كما أنها في هذا المسعى كانت تقدم شروطا تفضيلية، وأسعارا أرخص، وصارت الصين والهند وتركيا من أكبر أسواقها. وفيما يعد نقل الخام الروسي عبر أوروبا وقناة السويس هو الطريق الوحيد الممكن لنفط «الأورال» في الأجل القصير، حتى يتم تدعيمه بخط أنابيب شرق سيبريا المحيط الهادي الواصل إلى آسيا، فإن أوروبا تنظر إلى هذا القيد على أنه آلية ضغط على روسيا، خاصة وأنها تركت لها الباب مفتوحًا في استثنائها النفط الروسي المنقول عبر الأنابيب إلى أوروبا من الحظر.
وفيما كانت ارتفاعات أسعار الغاز من العوامل التي أدت إلى ارتفاع مستويات التضخم في أوروبا، فإن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تكن متحدة بشأن الموقف من تحديد سقف سعر للغاز الروسي، وفي الاتفاق النهائي تأتي صعوبة التطبيق، مع مهلة حتى فبراير حتى يبدأ التنفيذ، فالسعر الأقصى يطبق إذا تجاوزت الأسعار 180 يورو لكل ميجاوات ساعة لمدة 3 أيام، ولتحديد الحد الأقصى يجب أن يكون عقد الشهر الأول لمركز الغاز التابع لمرفق نقل الملكية الهولندي أعلى بمقدار 35 يورو لكل ميجاوات ساعة عن السعر المرجعي القائم على تقييمات أسعار الغاز الطبيعي المسال الحالية لمدة 3 أيام.
وإذا ارتفع السعر المرجعي للغاز الطبيعي المسال إلى مستويات أعلى، فإن سقف الاتحاد الأوروبي سيتحرك معه، وفيما يعد ذلك تدخلًا في عمل قوى السوق لتحديد سعر الغاز بمرجعية سياسية، فإنه كان حريصًا على ألا يتحول بيع الغاز الروسي إلى أسواق أخرى أكثر ربحية، وقد كانت أسعار الغاز قبل القرار الأوروبي عند مستوى 107 يورو لكل ميجاوات ساعة، وكانت 97 يورو لكل ميجاوات ساعة العام الماضي. ويعد سقف سعر الغاز الروسي حلا مؤقتا يطبق لعام واحد، وفي نفس الوقت تعتزم روسيا تعويض حصتها السوقية المفقودة في أوروبا عن طريق شحن الغاز الطبيعي الروسي إلى آسيا، خاصة الصين عن طريق مشروعها الضخم، خط أنابيب قوة سيبريا 2.
وإذا كان الاتحاد الأوروبي ليس هو المشتري الوحيد لنفط روسيا وغازها، وهناك بدائل، وإن كانت تكتنفها صعوبات في الأجل القصير، فإن هذه القرارات السياسية لن تستطيع الصمود أمام قوى السوق في سلع تشتد حاجة العالم إليها. فروسيا التي تنتج ما يقرب من 10% من الإنتاج العالمي للنفط (10,7 ملايين برميل يوميًا) وتزود أوروبا بـ 27% من احتياجاتها النفطية و40% من احتياجاتها من الغاز، أمامها أسواق بديلة متعطشة. كما تستطيع تعطيش السوق بخفض إنتاجها، ومن ثم يرتفع السعر، علمًا بأن 60 دولارا للبرميل هو السعر المقترح في ميزانية روسيا، وقريب جدًا من السعر المتوقع من جانب السوق لعام 2023، ومن ثم فإنه لن يجعل روسيا تخفض إنتاجها.
كما أن الأسواق البديلة مثل الصين والهند لم تعتمد رسميًا هذا السعر، فضلًا عن أن وضع سقف سعر منخفض يضر بشدة حوافز الاستثمار في قطاع الطاقة، ما يرفع الأسعار مستقبلًا، وكان تعليق روسيا على سقف السعر أنها لن تلتزم به، وإن اضطرت إلى خفض الإنتاج، وواقع الحال يقول إن تسقيف سعر النفط لم يترتب عليه انخفاض أسعاره، فما يحرك الطلب على الطاقة ومن ثم أسعارها ليس مثل هذه القرارات، ولكن عوامل أخرى مؤثرة في السوق، كعودة الانتعاش إلى السوق الصيني أكبر مستورد للنفط الخام عالميًّا، وإعادة ملء مخزونات الولايات المتحدة، وارتفاع أسعار الغاز.