31/12/2022
"فضيحة البرلمان الأوروبي".. وسياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى
لا يحق للمسؤولين الأوروبيين أن يشعروا بالدهشة والاستغراب من أن بعضهم يتلقى رشاوى، فالفساد مستشرٍ في العديد من المؤسسات الأوروبية والغربية، ومراكز النفوذ وهو ما أكده تقرير منظمة الشفافية الدولية عام 2020، وتقرير المفوضية الأوروبية عام 2014، الذي قال إن مستويات الفساد في أوروبا مرعبة.
نقول هذا بمناسبة اتهام نائبة رئيسة البرلمان الأوروبي، «إيفا كايلي»، بتلقي حوافز مالية من دولة أجنبية مقابل تبني مواقف تأييد صريحة لها، والتي وصفتها «ماتينا جريدنيف»، و«مونيكا برونشوك» في صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنها «أكبر فضيحة في تاريخ البرلمان الأوروبي، قد تمتد إلى تقويض الديمقراطية الأوروبية وسيادة القانون». وذكرت صحيفة «فاينانشيال تايمز»، أنه بعد مصادرة ما يقرب من 1.5 مليون يورو نقدًا في أحد المنازل الخاصة بأحد الأعضاء في البرلمان الأوروبي؛ وعضو آخر سابق يجري تحقيق آخر بحق أربعة متهمين بجرائم فساد، وغسيل أموال، وتلقي رشاوى مالية وهدايا فاخرة وقيمة.
وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فقد وُصفت هذه الأخبار بالمخزية، حيث أضرت بسمعته وبمصداقيته بشكل كبير. واعتبر «سيمون تيسدال»، في صحيفة «الجارديان»، أن هذه القضية تمثل «صفعة قوية للديمقراطية»، حيث إن المزاعم الخطيرة الموجهة ضد كبار المسؤولين الأوروبيين تمثل «خيانة كبرى»، لثقة مواطني الاتحاد، لأن مثل هذه الشخصيات يجب أن تكون بعيدة عن دائرة الانتقاد. وعلى الرغم من أن «كتلة الاشتراكيين والديمقراطيين اليونانيين»، علقت عضوية «كايلي» في المجلس فورًا، وأكدت أنها ستعتمد نهج عدم التسامح مع قضايا الفساد والرشوة؛ إلا أن «كريستينا لو»، في صحيفة «الفورين بوليسي»، أكدت أن هذه الفضيحة قد هزت أركان الدول الأوروبية، وأثارت العديد من الشكوك في مؤسساتها، وزادت من حدة المخاوف من ممارسة عمليات بسط النفوذ الأجنبية والفساد داخلها.
من جانبها، صرحت رئيسة البرلمان الأوروبي «روبرتا ميتسولا»، بأن الديمقراطية الأوروبية تتعرض لهجوم، متعهدة بإطلاق عملية إصلاح لمعرفة مَنْ يمكنه الوصول إلى مقرّات التكتل، في الوقت الذي طالبت فيه بالمزيد من الشفافية بشأن الاجتماعات مع جهات أجنبية، مؤكدة أنه سيتم وضع حزمة إصلاحات ستكون جاهزة خلال عام 2023، فيما سيتم أيضًا تدقيق شامل وعميق حول كيفية تعامل البرلمان مع الدول خارج الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن مراجعة تطبيق سياسات مدونة سلوك لأعضاء البرلمان الأوروبي، وضرورة تشكيل لجنة أخلاقيات مستقلة. وفي هذا الصدد، عليها أن تضيف أيضًا بألا تسمح مدونة السلوك للنواب بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خاصة في ضوء أن تدخلهم في الشؤون الداخلية لدول بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأحيانا أخرى بوجود أسلحة دمار شامل، أضر بقضايا حقوق الإنسان نفسها، وصنع دولا فاشلة.
وبعيدًا عن هذه الفضيحة وردود الفعل التي أثارتها، فقد سلطت هذه القضية الضوء على مسؤولية الحكومات الأوروبية عن إعطاء الأولوية لشؤونها ومشاكلها الداخلية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خاصة أن عمليات الفساد المتفشية في «بروكسل»، تؤكد المسؤوليات التي تقع على عاتق الدول والحكومات والمشرعين والمسؤولين، بعدم الانخراط بأي تدخل بهدف تغيير مواقف صنع السياسات في البلدان الأخرى، أو في المنظمات متعددة الجنسيات بطرق مخادعة.
وبهذه المناسبة، نُذكر بفضيحة مشابهة وقعت في «مجلس العموم» البريطاني، في نوفمبر من عام 2021، حينما تلقى أعضاء بالمجلس أموالاً مقابل الاشتراك في ندوة تنتقد أوضاع السجون والسجناء وحقوق الإنسان في السعودية، الأمر الذي وضعهم في موقع المساءلة البرلمانية، خاصة أن الأمر خطير حينما يكون الدفع تجاه قضايا حساسة مثل حقوق الإنسان، بحيث إن أي عدو أو معارض لأي بلد يمكن أن يستخدم نائبا إذا كان مستعدا لقبول الثمن. وإدراكا منه لخطورة هذا الأمر، طالب رئيس الوزراء «بوريس جونسون» –حينها- بتعديل مدونة السلوك البرلمانية لمنع النواب من التورط في سياسات خارجية مدفوعة الأجر من جماعات الضغط.
ويمكن الجزم أن مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول، هو أحد المبادئ التي تحظى بأهمية كبرى في الشؤون الدبلوماسية الدولية. وتعليقا على ذلك، كتب السير «مايكل وود»، المستشار القانوني السابق في «الخارجية البريطانية»، أنه فيما يتعلق بالقانون الدولي، فإن مبدأ عدم تدخل الدول، يعني أنه «لا ينبغي أن تتدخل أية دولة في الشؤون الداخلية» لدولة أخرى. وعلى وجه الخصوص، تنص المادة (2)، الفقرة (6) من ميثاق الأمم المتحدة على أن: «الأمم المتحدة نفسها ليس لها الحق في التدخل في الأمور التي تقع أساسًا ضمن الاختصاص الداخلي والولاية القضائية لأي دولة».
وفي حين أصدرت «الجمعية العامة بالأمم المتحدة» التوصية رقم (2131) في 21 ديسمبر 1965، وكان عنوانها آنذاك «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحماية استقلالها وسيادتها»، أفادت «الأمم المتحدة»، ذاتها أن زيادة التهديد للسلم العالمي بسبب أعمال التدخل المباشرة أو غير المباشرة، تهدد «إجراءات السيادة والاستقلال السياسي للدول. وأضاف «وود»، أن فكرة عدم التدخل تعد «جزءا راسخا»، في القانون الدولي، وذلك في ضوء السوابق القانونية المهمة التي تؤكد حق كل دولة ذات سيادة في إدارة شؤونها من دون تدخل خارجي.
ولتوضيح هذا الأمر، كتب «تشارلز باترون»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أن السياسة الخارجية لأي دولة، تهدف إلى تعظيم مصالح ذلك البلد خارجيًا من خلال أعمال التأثير على الحكومات والشعوب الأخرى من أجل تلبية منافعها الجيوسياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، حيث إن هناك حدودا واضحة يمكن التفريق من خلالها بين الأنشطة التي تشكل تأثيرًا مشروعًا، وتلك التي يُمكن وصفها بأنه تدخل غير مبرر، لا تحكمه قواعد ثابتة، ويتم تنفيذ هذا التدخل من قبل جهة خارجية، وهو غير مقبول في القانون الدولي.
وفيما يتعلق بفضيحة فساد البرلمان الأوروبي، والتي نحن بصددها، أوضحت «ستيفيس»، و«برونشوك»، أنه على الرغم من أن المؤسسة التشريعية، تعد الذراع السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، إلا أن مشرعيه من الدول الأعضاء غالبًا ما يتم الاتصال بهم من قبل جماعات الضغط من الدول، ومجموعات المصالح، التي تسعى للتأثير في الرأي العام داخليًّا أو خارجيًّا. ويشهد مكتب «المدعي الفيدرالي البلجيكي»، الذي وجه التهم ضد من لهم صلة بقضية الفساد المشار إليها، أنه قام طيلة عدة أشهر بتقييم محاولات أطراف خارجية، للتأثير في القرارات الاقتصادية والسياسية للبرلمان الأوروبي من خلال دفع مبالغ مالية كبرى، وتقديم هدايا باهظة الثمن، لأطراف ذات موقع سياسي وتشريعي و/أو استراتيجي مهم داخل البرلمان الأوروبي.
وفي إدراك لأهمية هذه القضية، ينبغي تأكيد أن النظام السياسي الأوروبي، يشهد على تدخل المسؤولين الأوروبيين والغربيين في الشؤون الداخلية لدول أخرى حول العالم، بما في ذلك دول الشرق الأوسط، بدلاً من التصدي بشكل فعال لقضايا شعوبهم وهي رفع مستوى التعليم والصحة والسكن والعمل وتحسين حياتهم وتحقيق رفاهيتهم وغير ذلك.
ولعل الدلالة الأبرز هنا، القرار الصادر عن البرلمان الأوروبي، يوم 15 ديسمبر 2022، بشأن حقوق الإنسان في البحرين، والذي استند إلى معلومات تقف وراءها عناصر خارجية، تقدم معلومات مغلوطة؛ بهدف تشويه سمعة البحرين في مجال حقوق الإنسان، الأمر الذي اعتبرته المملكة، تدخلا في شؤونها الداخلية، ومن ثمّ، كان ردها واضحًا وصريحًا وحضاريًّا، وهو مطالبة البرلمان، بضرورة الالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، معتبرة القرار الذي أصدره «باطلاً، ومرفوضًا»، من جهة أنه يتعارض مع استقلال وسيادة الدول، ويتنافى مع المواثيق والقوانين الدولية، ويفتقر إلى المصداقية والموضوعية، ويشارك في ترويج معلومات تم تزييفها وتدليسها من قبل أشخاص ومجموعات ودول تقوم بعمليات التضليل.
كان الأولى بالبرلمان الأوروبي أن يهتم بشؤون دوله التي تشهد انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان؛ منها التمييز والعنصرية بين مواطنيها، إلى جانب معاناتها من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية وإنسانية أخرى، أو تناول قضايا عالمية أخرى تشهد أحداثًا مأساوية منها أعمال القتل العنصرية ضد المواطنين السود في الولايات المتحدة، والتي تقوم بها الشرطة هناك بشكل ممنهج، هذا غير الكوارث الإنسانية التي تفتك بملايين البشر في منطقتنا العربية، والتي تقف وراءها سياسات الدول الغربية، ومن ضمنها دول أعضاء مهمة في الاتحاد الأوروبي، كما هي الحال في سوريا والعراق وليبيا، وقبل هذا وذاك عمليات الإبادة اليومية التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتجدر الإشارة إلى أن توجهات الاتحاد الأوروبي المعلنة في مجال حقوق الإنسان، لم يتم تعميمها لتسود سبل معاملة كل المهاجرين وطالبي اللجوء الهاربين من بلدانهم، حيث أشار «آدي إسبوزيتو»، في مجلة «هارفارد إنترناشونال ريفيو»، إلى التناقض بين المعاملة غير العادلة لمختلف جموع اللاجئين في أوروبا، حيث يتصدر الأوكرانيون التسلسل الهرمي للفئة الأولى بالرعاية في القارة الأوروبية، وهو الأمر الذي يعطي تصورًا بأن الآخرين الباحثين عن الأمان في الغرب أقل استحقاقًا لنيل المساعدة والقبول.
وعلى ضوء ما تقدم، فإنه من المهم للدول الغربية أن تدرك الحاجة إلى إعطاء الأولوية لشؤونها الداخلية الخاصة، وليس الاهتمام بالتدخل في شؤون الآخرين، خاصة أن الاعتراف بذلك -جنبًا إلى جنب مع الرغبة المشتركة في التعاون لتحسين الظروف، بدلاً من الانتقادات المستمرة- تعد في ذاتها خارطة طريق لتحسين وتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين الدول وشعوبها.
وفيما يتعلق بما يمكن فعله على المستوى العملي للحد من تلك التدخلات، فمن الضروري أولًا تذكير الحكومات بضرورة الالتزام باتفاقاتها لتجنب التدخل، مثل ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وكذلك إلزام نفسها باتباع القواعد الإيجابية المتفق عليها في العلاقات الدولية.
على العموم، يتضح من قضية الفساد المشار إليها، والعديد من النماذج الأخرى المشابهة، والتي تثير المزيد من الشكوك والاتهامات والمخاوف حول الأداء السياسي لمؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ أن «ما يقوله البرلمان الأوروبي، عكس ما يفعله»، حيث إن فشل بعض المسؤولين في الالتزام بالمعايير المقننة للعلاقات الدولية من خلال دعم مصالح الأطراف الخارجية للحصول على مزايا ومكاسب شخصية وراء الأبواب المغلقة، يعد «أمرا كارثيا»، يشير إلى الازدواجية التي تتعامل بها هذه الدول مع قضايا حقوق الإنسان، وتحول تلك القضية إلى أداة لممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية، ضد بعض الدول لأهداف محددة.
وفي الأخير، كان على البرلمان الأوروبي أن ينظر إلى أوضاع دوله الداخلية، ويحقق في العديد من انتهاكات حكوماته، وفساد سياسي قبل أن يسمحوا لأنفسهم بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، فمن كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة.