19/01/2023
اتجاهات توطين الصناعة في دول الخليج العربي
تقوم دول الخليج في إطار مسعاها الاستراتيجي لتنويع مصادر الدخل، والتحرر من الاعتماد الكبير على عائدات صادراتها النفطية، باستثمار الطفرة التي حدثت في هذه العائدات، لتوطين عدد من الصناعات بها، خاصة تلك التي تملك مقومات نجاحها، من سهولة الحصول على المواد الخام، والعمالة الفنية، والطاقة، والتمويل، والسوق، وتجنب العوامل التي حدّت قبلًا من هذا الاتجاه، سواء في اتجاه إحلال الواردات، أو اتجاه تشجيع الصادرات، وهي في ذلك تستفيد أيضًا من حالة التباطؤ التي حلّت بالاقتصادات الكبرى، وضعف فرص الاستثمار في هذه الاقتصادات لجذب رؤوس الأموال والخبرة الفنية في الدول المتقدمة، ليكون الاستثمار الأجنبي المباشر المتوجه إليها، وجهته الرئيسية القطاع الصناعي.
لهذا قبل أن ينقضي العام الماضي، وفي إطار الاستراتيجية الوطنية للصناعة التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في أكتوبر، مستهدفًا الوصول إلى اقتصاد صناعي جاذب للاستثمار يسهم في تحقيق التنويع الاقتصادي، وتنمية الناتج المحلي والصادرات غير النفطية، كان برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية في المملكة العربية السعودية، بالتعاون مع بنك الرياض، قد أطلق مبادرتي «نمول لتصنع» و«نستثمر لتصنع»، فيما استهدفت المبادرة الأولى تمويل توطين 50 منتجًا في خمس قطاعات، بواقع 10 منتجات لكل قطاع بإجمالي استثمار 70 مليار ريال، كما استهدفت المبادرة الثانية تمويل الصناديق الاستثمارية المختصة بالقطاع الصناعي في ثلاث قطاعات.
وتتوافق المبادرتان مع عدة استراتيجيات في المملكة، كتوطين صناعة المنتجات، وبرنامج «شريك» لحفز الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص، والاستراتيجية الوطنية للاستثمار، وإحلال الواردات، بما يخفف الضغط على ميزان المدفوعات، فيما يحظى القطاع الصناعي في رؤية 2030 بدعم كبير، في استهداف تصنيع المزيد من المنتجات التي تستوردها المملكة. وتُعد مبادرة «نستثمر لتصنع» من أهم مكملات القطاع الصناعي السعودي؛ حيث يعد القطاع المالي شريك أساسي، كما تتضمن المبادرتان مشاركة 8 جهات حكومية هي: وزارة الصناعة والثروة المعدنية، صندوق التنمية الصناعية، برنامج كفالة، بنك التصدير والاستيراد، المركز الوطني للتنمية الصناعية، هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية، هيئة تنمية الصادرات السعودية، والهيئة السعودية للمدن الصناعية ومناطق التصنيع.
ومن أبرز الصناعات الجديدة في اتجاه توطين الصناعة السعودي، صناعة السيارات، التي تستهدف بها المملكة، ليس فقط تقليل الواردات، ولكن التحول إلى التصدير، ومن المعلوم أن هذه الصناعة يخدمها عدد كبير من الصناعات المغذية لها تشمل العديد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
وفي اتجاه توطين صناعة السيارات، كانت المملكة قد أبرمت مذكرة تفاهم مع شركة هيونداي موتور الكورية الجنوبية، لإقامة مصنع لتجميع السيارات في المملكة، بنوعيها: الاحتراق الداخلي والكهربائية، مع تدريب العمالة الوطنية، وجلب المعرفة، والتركيز على المنتجات ذات القيمة المضافة العالية، فيما توقعت الاستراتيجية الوطنية نمو مبيعات السيارات الخفيفة في المملكة بنسبة 2,2% سنويًّا لتصل إلى 800 ألف سيارة في 2030، وهذه الصناعة وحدها تخلق 60 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة بحلول هذا العام، وهي متوجهة للسوق المحلي والإقليمي الذي يتمتع بحجم طلب كبير على منتجاتها.
وقد كشف بيان الميزانية الصادر عن وزارة المالية السعودية، عقب إقرار مجلس الوزراء الموازنة العامة للدولة لعام 2023، أن وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية لديها العديد من المشاريع المخططة والمستهدفة خلال عام 2023، أبرزها توطين صناعات نوعية في 10 قطاعات منها صناعة السيارات والصناعات البحرية والصناعات الطبية والدوائية، وتستهدف خلال هذا العام تسجيل العلامة التجارية «صنع في السعودية» في مجلس التعاون الخليجي، والمناطق المستهدفة لتعزيز صادرات الصناعات السعودية إليها.
وتستهدف الوزارة أيضًا استقطاب استثمارات محلية وأجنبية نوعية إلى مدن الهيئة الملكية، للجبيل وينبع، بحجم استثمارات مقدر بـ24,8 مليار ريال، وتوفير ما يقرب من 7200 فرصة عمل، وتطوير مواقع صناعية بمساحة 8 ملايين متر مربع؛ لاستقطاب هذه الاستثمارات، وتستهدف إنشاء 105 مصانع جاهزة بكل من مدينة جيزان الصناعية وواحة القصيم الصناعية والدمام الثانية الصناعية.
كما تستهدف الوزارة دعم الصناعات الواعدة من خلال تطوير 44 فرصة استثمارية في قطاع الآلات والمعدات؛ لزيادة حجم الصناعة المحلية وتقليل الواردات، ودعم سلاسل الإمداد الأساسية لصناعة الطيران من خلال تطوير 10 فرص استثمارية واعدة، والنهوض بالصناعات عالية التقنية، ونقل المعرفة في هذه الصناعات.
وتبنى اتجاهات 2023 على ما تحقق في 2022، حيث كشف مجلس تنسيق المحتوى المحلي عن بلوغ قيمة الفرص التي جرى إطلاقها وتطويرها في هذا العام؛ بهدف زيادة المحتوى المحلي، نحو 6,6 مليارات دولار، فيما تم توطين 176 صناعة بقيمة إجمالية بلغت 34,1 مليار دولار، ووصلت نسبة المحتوى المحلي إلى ما يقارب 45,8% من إجمالي الإنفاق في مشتريات الشركات الأعضاء من السلع والخدمات، وبلغت نسبة مؤشر مشتريات السلع المحلية 69,2% من إجمالي الإنفاق على السلع في 2021.
وإلى هذا أنشأت المملكة بنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة؛ لتعزيز المساهمات في تقديم حلول تمويلية، وإلى جانب الصناعات المدنية تسعى المملكة أيضًا إلى زيادة توطين الصناعات العسكرية، بتقديم 30 فرصة استثمارية للقطاع الخاص في هذه الصناعات بقيمة 32 مليار دولار، مستهدفة توطين 50% من الإنفاق العسكري بحلول 2030.
ومن الجدير بالذكر أن الاستراتيجية الوطنية السعودية للصناعة قد حددت أكثر من 800 فرصة استثمارات بقيمة تريليون ريال سعودي، مستهدفة زيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 895 مليار ريال، والوصول بحجم الصادرات الصناعية إلى 557 مليار ريال، من خلال تحقيق نمو بنسبة 350% في الفرص الاستثمارية الصناعية، وزيادة عدد المصانع في المملكة إلى 36 ألف مصنع، فيما بلغ عددها 10 آلاف مصنع في 2022، لتُعد هذه الاستراتيجية بذلك من أهم مرتكزات رؤية السعودية 2030.
وفي مارس 2021، أطلقت دولة الإمارات الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، التي تعرف بمشروع 300 مليار مستهدفة تطوير القطاع الصناعي في الدولة، ورفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 133 مليار درهم إلى 300 مليار درهم في 2031.
وكان لتأثير أزمة خلل سلاسل الإمدادات عقب جائحة كورونا، دور كبير في الدفع إلى هذا الاتجاه، لزيادة نسبة الاكتفاء الذاتي من المنتجات الصناعية، ودعَّم هذا الاتجاه إصدار المرسوم بقانون الاتحادي رقم 25 لسنة 2022 في 8 نوفمبر 2022 لتنظيم وتنمية الصناعة في دولة الإمارات، واهتمت الاستراتيجية الوطنية للصناعة بالتركيز على عدد من القطاعات الصناعية الرئيسية تشمل المنتجات الغذائية، والتكنولوجيا الزراعية، والأدوية والمنتجات الصيدلانية، والمعدات الكهربائية، والإلكترونيات، والمنتجات الكيماوية، وتكنولوجيا الفضاء، والهيدروجين.
ولتحفيز الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع، استضافت أبو ظبي في يونيو 2022، منتدى «اصنع في الإمارات: استثمار.. شراكة»، وجرى فيه توقيع 32 اتفاقية وشراكة، كما أعلنت 12 شركة إماراتية الحصول على نحو 110 مليار درهم، نتيجة اتفاقات الشراء المحتملة مع الشركاء المهتمين بتوطين جزء من سلاسل توريد منتجاتهم.
وفي الشهر نفسه أعلنت أبوظبي الاستراتيجية الصناعية الجديدة، مستهدفة استثمار نحو 10 مليارات درهم في برامج تحويلية، وركزت مبادرات هذه الاستراتيجية على قطاعات: المواد والآلات، الأغذية والأدوية، والمعدات الكهربائية، والنقل، والطاقة. كما أعلنت شركة بترول أبوظبي الوطنية «أدنوك» عن خطط بقيمة 70 مليار درهم لتصنيع منتجات محليًّا دون الاضطرار إلى استيرادها، وترتبط هذه الاتجاهات بتعزيز الاقتصاد الوطني، ودعم مكانة دولة الإمارات، وتأكيد التنويع الاقتصادي، والاستفادة من فرص التحولات الاقتصادية العالمية، وتكريس نهج المرونة والتكيف مع الأزمات.
وتمثل الاستراتيجية الصناعية جزء أساسي من رؤية الكويت الاقتصادية لعام 2035، مستهدفة تحقيق اقتصاد متنوع ومستدام، والتنويع الاقتصادي، ورفع إسهام القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي، وتعزيز الاستثمارات المحلية والأجنبية فيه، وتعزيز دور البحث والتطوير والابتكار، وزيادة فرص التشغيل.
وفي هذه الاستراتيجية يحتل الأولوية صناعات البتروكيماويات والمنتجات الكيماوية، والصناعات الغذائية، والصناعات الطبية والأدوية والمنتجات الصيدلانية، وأجهزة الذكاء الاصطناعي ومستلزمات البناء، كما تتوخى ارتفاع رأس المال المستثمر في القطاع الصناعي، من 17,1 مليار دولار في 2022 إلى 36,3 مليار دولار في 2031، وزيادة وظائف العمالة الوطنية من 11 ألفا إلى 25 ألفا وارتفاع الصادرات الصناعية من 5,5 مليارات دولار إلى نحو 10 مليار دولار، وزيادة القيمة المضافة من 5,9 مليارات دولار إلى 7,9 مليارات دولار، وارتفاع نسبة الإنفاق على البحث والتطوير من نحو 48 مليون دولار إلى أكثر من 181 مليون دولار.
وفي قطر تنشط الصناعات الكيماوية في مدينة رأس لفان، وصناعات الصلب والبتروكيماويات والأسمدة في مدينة أم سعيد، كما تنشط عملية تصنيع الغاز المسال، وفي عام 2019 أصدرت قطر القانون رقم (2) لسنة 2019 لدعم تنافسية المنتجات الوطنية ومكافحة الممارسات الضارة بها في التجارة، فيما حقق القطاع الصناعي فيها نموًّا بنسبة 6% في عام 2020.
ومع التقدم الذي تم إحرازه في مشاريع تطوير منطقة الصناعات الصغيرة والمتوسطة، أصبح قطاع الصناعة يحقق معدل 22% نمو سنوي في مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي البالغة نحو 18 مليار دولار، فيما تُعد قطر أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم ولديها فرصة كبيرة للتوسع في هذه الصناعة، في ضوء الدروس المستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية. وتُعد استراتيجية قطر الوطنية الصناعية أحد مكونات رؤيتها الوطنية 2030، مستهدفة تطوير اقتصاد أقل اعتمادًا على قطاع الهيدروكربونات، وتركز على إنشاء سلاسل قيمة للصناعة، بغية تحويلها إلى مركز رئيسي للإنتاج، ووجهة تصنيع عالمية لها قدرة وصول إلى الأسواق والمناطق الحرة العالمية.
وفي سلطنة عُمان تساهم الصناعة بنسبة 10,5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعمل بها أكثر من 230 ألف شخص، وتصدر منتجاتها لأكثر من 140 دولة، وتزيد قيمة هذه الصادرات عن 9 مليارات دولار. وتسعى السلطنة إلى زيادة استخدام مواردها الطبيعية في صناعات البتروكيماويات ومواد البناء والصناعات المعدنية والأغذية والمشروبات والمعدات الكهربائية والآلات والكابلات والموصلات الكهربائية والأثاث وبناء السفن، والعطور ومستحضرات التجميل ومنتجات العناية الشخصية، وإعادة التدوير، والأدوية والمعدات الطبية.
كما تتطلع إلى اعتماد الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لتحسين إدارة الموارد وتقليل التكاليف، فيما حددت الاستراتيجية العمانية الصناعية 2040 ثلاث قطاعات صناعية واعدة، وهي الصناعات التي تستخدم المواد الخام الأولية المتاحة، والصناعات كثيفة الاستخدام لرأس المال، والصناعات المرتبطة بالبحث العلمي والمعرفة والتطوير.
وفي البحرين، غدا 78 منتج جديد يحمل علامة “صنع في البحرين” في 2022، فيما تسعى المملكة إلى تركيز القطاع الصناعي في التحول نحو الثورة الصناعية الرابعة، وبحلول 2026 سيتم إنشاء أربعة مناطق صناعية جديدة: منطقة شرق مدينة سلمان، وجنوب إلبا المخصصة للصناعات التحويلية، ومنطقة مخصصة للصناعة الأمريكية، ومنطقة فشت العظم.
وتستهدف استراتيجية القطاع الصناعي 2022 – 2026 التركيز على قطاعات الصناعات التحويلية، البتروكيماويات، الطاقة المتجددة، الهيدروجين الأخضر والأزرق، الصناعات الغذائية والدوائية، والإلكترونيات الدقيقة، ورفع إسهام القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 12,8% إلى 14,5% عام 2026 بقيمة تبلغ أكثر من 2,5 مليار دينار بحريني.
ومع تبني كل دول الخليج استراتيجيات صناعية تستهدف تطوير عدد من الصناعات بها، بما يقلل اعتمادها على الاستيراد، ويزيد من فرص التصدير، وينوع اقتصادها، فإنه يبقى التنسيق في أعمال هذه الاستراتيجيات خليجيًّا، حتى تكون كل دول الخليج السوق الأول لبعضها، وهي تتكامل في هذه الصناعات بدلًا من التوجه إلى إنشاء صناعات متنافسة يقف أمام كل منها العقبة التقليدية التي عانت منها قبلًا، وهي صغر حجم السوق.