21/01/2023
استراتيجيات لتجنب نشوب نزاعات مسلحة في المستقبل
خلال العقدين الماضيين، انتشرت تخوفات بشأن الدوافع المستقبلية لتصعيد الصراع الدولي من قِبل بعض الدول الكبرى. وذكر «ستيفان ثيل»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «التنبؤات حول مستقبل الحروب غالبا ما تتبع السرديات الشعبية، والأنماط الفكرية العامة، فيما يتراجع الخطاب الأكاديمي». وفي ضوء التخوف من نشوب الصراعات مستقبلا، وخاصة مع حدوث ثورة في المجال العسكري في بداية القرن الحادي والعشرين؛ طرح الخبراء العديد من السبل للحيلولة دون أن يشهد العالم المزيد من النزاعات المسلحة.
وخلال العِقد الثاني من القرن الحالي، اكتسب التركيز على الفائدة الاستراتيجية للحرب الهجينة، منخفضة التكنولوجيا نسبيًا؛ «قوة جذب»، مع استخدامها «المعلومات» لتقويض الحكومات المتنافسة. وعلى سبيل المثال، استطاعت «روسيا»، استخدام مثل هذه الأساليب بنجاح في جورجيا عام 2008، وشرق أوكرانيا عام 2014؛ ما يؤكد إمكاناتها المستقبلية لمواجهة القوى السياسية والعسكرية الغربية التقليدية؛ لجني فائدة جيوسياسية كبيرة.
ومع ذلك، فإن اندلاع أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945 بأوكرانيا، قد أدى إلى مراجعة تقييمات الخبراء لمستقبل الصراعات ككل. وكتب «ثيل»، أن «هذا يدعونا لعدم تبني تفكير قائم على التمني، بشأن استحالة وقوع مثل هذه الأحداث»، ولا «استقراء الحاضر والمستقبل من تفسيرات الماضي». وفي ضوء ذلك، رأى أن «استخلاص الدروس الصحيحة» من حرب أوكرانيا، «أمر حيوي لردع ومنع نزاعات مستقبلية أخرى في جميع أنحاء العالم». وأضافت «آن سلوتر»، من مركز «نيو أمريكا»، أنه بينما «تستمر الحرب في كييف»، فإنه من المهم تصور الديناميكيات الأخرى التي قد تهيمن على الصراع الرئيسي التالي في العالم، وبالتالي التفكير في أفضل السبل لتجنب ذلك.
من جانبه، اعتبر «ثيل»، أن «أكثر البؤر الساخنة المحتملة لتكرار حالة أوكرانيا، هي «تايوان». وفي هذا الصدد، كتب «أندرس راسموسن»، الأمين العام السابق لحلف الناتو، أنه «من المستحيل عدم إجراء مقارنة بين روسيا، ورغبات الصين المماثلة للتوسع الإقليمي». فيما اعتبر «مجلس العلاقات الخارجية»، أن المواجهة المسلحة المحتملة هي بين «إسرائيل»، و«إيران»، بسبب طموحات الأخيرة النووية، وجهودها لزعزعة استقرار الشرق الأوسط. وسلطت «مجموعة الأزمات الدولية»، الضوء على احتمالية تصاعد الأعمال العدائية بين «أرمينيا»، و«أذربيجان»، وفي إثيوبيا، ومنطقة وسط إفريقيا». وفي حالة مثل هذه النزاعات، حدد المراقبون «اللجوء للتحالفات»، و«التهديد بالعقوبات الاقتصادية»، و«الردع النووي»، و«الدفاع السيبراني»، كأدوات لمنع نشوب صراعات كبرى في المستقبل.
وفي هذا المنحى، تم الاستشهاد بمتطلبات تقوية نظام التحالف الغربي الحالي؛ كمفتاح لردع أعمال العدوان في المستقبل. وفي إشارة إلى أن كلاً من «أوكرانيا»، و«تايوان»، «لا ينتميان لتحالفات رسمية»، وبالتالي لا يستفيدان من ضمانات حماية الناتو؛ أعرب «راسموسن»، عن أسفه لكيفية تجاهل الغرب لخطر الحرب الشاملة في أوكرانيا، وحث دول التحالف أن تأخذ تهديدات الصين ضد تايوان «على محمل الجد» في عام 2023، مضيفًا أن وجود تحالفات موحدة بمثابة «رادع رئيسي»، ضد المعتدين، مثلما فعل الغرب ضد موسكو، رداً على حربها في أوكرانيا.
وحتى في حالة الدول التي لا تمتلك «تحالفات رسمية»، و«ضمانات أمنية؛ فإن الردع الذي توفره الروابط الأمنية الوثيقة مع القوى العسكرية والاقتصادية الكبرى؛ يوفر أيضًا للدول الأصغر «حماية أساسية». وأوضح «ديفيد بتريوس»، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية السابق، أن لحرب أوكرانيا، فائدة لا يمكن إنكارها لكييف، حيث «وفرت لها قاعدة صناعية حليفة، أمدتها بأسلحة على نطاق واسع وبسرعة، مما قدم لها وسيلة مهمة لمواجهة التفوق العسكري الروسي».
وحول أن الحلفاء لا يزالون قادرين على المساعدة في الردع من «خارج الآليات الرسمية»، أشار «راسموسن»، إلى أنه بالنسبة للغرب، فإنه لردع هجوم صيني على تايوان، يجب أن تصبح الأخيرة «مُدججة بالسلاح»، الأمر الذي سيجعل ثمن اقتحامها «باهظًا للغاية»، بالنسبة لبكين. ووفقًا لـ«بتريوس»، فإن العملية الروسية في أوكرانيا، قد نبهت «واشنطن» بقوة، بشأن الحالة «غير الملائمة» لصناعة الدفاع لديها خلال «حقبة جديدة من المنافسة بين القوى العظمى»، وعززت قوة هياكل التحالف الرسمية وغير الرسمية، كمصدر للردع.
وإلى جانب التحالفات، أكدت «ماريا شاجينا»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، على ضرورة استخدام «العقوبات الاقتصادية»، بشكل أفضل وأقوى نطاقًا لردع الهجمات المحتملة. وحول تهديدات الغرب بفرض «عقوبات واسعة على روسيا، وفشلها في القيام بذلك، أشارت إلى أن الدول الغربية قد تعلمت الآن أنه لا يمكن الاعتماد على العقوبات وحدها لمنع اندلاع الحروب. ولاحظت أن استخدام مثل هذه الإجراءات الاقتصادية سيكون «صعبًا للغاية» ضد الصين، التي يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي حوالي عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، والتي يمكن أن «تتسبب في توابع عنيفة» على الاقتصاد العالمي، مؤكدة أن الصين، مثل روسيا، «ستكون على استعداد لقبول كلفة اقتصادية كبيرة»، من أجل «متابعة هدفها المعلن لضم تايوان» بالقوة.
وفيما يتعلق بما يمكن فعله لمواجهة عملية عسكرية صينية مستقبلية؛ تم طرح «طرق اقتصادية أخرى». وأشارت «شاجينا»، إلى أن «أضعف نقطة» في «بكين»، من الناحية الجيوسياسية، تتمثل في «اعتمادها الكبير على الدولار والعملات الغربية الأخرى في تجارتها الدولية واحتياطاتها الأجنبية»، مما يعني أنه من «الضروري» للدول الغربية أن تبني «تحالفًا واسعًا للعقوبات»، مع «المزيج الصحيح من المرونة والمتانة». وأشار «راسموسن»، إلى أن الصين «لا تزال تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة، وحلفائها للحصول على «الرقائق الدقيقة»، الأكثر تقدمًا» والمطلوبة لأنظمة الأسلحة المتقدمة، والتطورات التكنولوجية، وهو الأمر الذي يوفر لهذه الدول «ميزة عسكرية» كبيرة، وبالتالي مصدر آخر للردع غير المباشر.
بالإضافة إلى ذلك، تمت الإشارة إلى أهمية «الردع النووي». وأشار «جراهام أليسون»، من «جامعة هارفارد»، إلى أن حرب أوكرانيا، قد أكدت على أن «الترسانات النووية ستظل ركيزة أساسية لنظام الأمن الدولي»، حيث إن تهديدات الرئيس الروسي، «بوتين»، باستخدام الأسلحة النووية، أعطت «تنبيها واضحا للحقيقة المتمثلة في أن الترسانات النووية التي تحتوي على آلاف الرؤوس الحربية، تظل أساسًا في تشكيل العلاقات بين القوى العظمى»، مضيفًا أن الرئيس الأمريكي، «جو بايدن»، ومستشاريه «يدركون تلك الحقيقة جيدا». مضيفا أنه في عصر المنافسة متعددة الأقطاب، تبرز «الأسلحة النووية»، بشكل متزايد على أنها «عامل قوة» مع الدول الأكثر قوة سياسيًا واقتصاديًا. وعليه، أوضحت «سلوتر»، أنه بينما «يمارس بوتين تهديداته»، ضد أوكرانيا والغرب، فإن إيران «تواصل مسيرتها نحو امتلاك الطاقة النووية»، وكوريا الشمالية «تكثف تجاربها الصاروخية».
ومع إشارة «أليسون»، إلى كيفية توفير الولايات المتحدة، «مظلة نووية»، لحماية حلفائها ممن اختاروا عدم امتلاك هذا النوع من السلاح»، تظل دول، مثل «تايوان»، و«جورجيا»، و«أوكرانيا»، «ليس لديها التزام مماثل للدفاع عنها باستخدام الأسلحة النووية». وحول ما إذا كان شركاء «واشنطن» في الشرق الأوسط، سيستفيدون قريبًا من نفس الضمانات الأمنية التي تتمتع بها «اليابان»، و«كوريا الجنوبية»؛ كتب «غريغوري غوز»، في مجلة «فورين أفيرز»، أن «التعاون مع السعودية ودول الخليج الأخرى «في حالات الطوارئ العسكرية»، تزيد من «الكفاءة العسكرية للولايات المتحدة في المنطقة»، وتعمل أيضًا على ردع الاعتداءات الإيرانية.
كما يوجد شكل آخر لمنع الصراع، وهو «الحد من التسلح وعدم الانتشار». وفي ضوء تأجيل «موسكو»، للمحادثات مع «واشنطن»، بشأن التوقيع على معاهدة جديدة للحد من الأسلحة الاستراتيجية في نوفمبر 2022؛ اقترحت «روز جوتيمولر»، من «جامعة ستانفورد»، أن «هدف الولايات المتحدة الرئيسي»، يجب أن يكون، إبعاد روسيا عن استخدام السلاح النووي». وحول كيفية القيام بذلك، نصحت بأن يركز الحوار أولاً على «الأهداف الواقعية والممكنة»، مثل استئناف عمليات التفتيش على المنشآت النووية، وتحديد شروط معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة، مع «مناقشات أوسع وأكثر طموحًا»، حول الاستقرار النووي على المدى الطويل.
تم أيضًا تسليط الضوء على الأهمية المتزايدة «للأمن السيبراني» في الردع، باعتباره «ضرورة»؛ لتجنب الصراعات الكبرى في المستقبل. وعلقت «سلوتر»، بأن «سباق تسلح جديد»، في المجال السيبراني، مع تزايد القوى التكنولوجية للدول التي تزعزع توازن النظام الدولي؛ يجعل الحرب السيبرانية؛ من الممكن أن تصبح أكثر مصداقية من التهديد «باستخدام الأسلحة النووية»، كرادع لاعتداءات الدول.
واستمرارا، أوضحت أن «الإرث الأساسي»، لحرب أوكرانيا، يجب أن يتمثل في ظهور فكرة «التدمير السيبراني المتبادل»، استنادًا إلى «كيف يمكن للدول تطوير قدرتها على التأثير في بعضها وحرمانها من تشغيل خدمات الطوارئ الحيوية»، مضيفة، أن الأنماط المستخدمة في الهجمات الإلكترونية لديها الآن القدرة على تدمير «قاعدة البيانات السريعة» الرئيسية، وبالتالي، التأثير على الخدمات المالية، ومجال التصنيع، والرعاية الصحية، ومعالجة المياه، والاتصالات، والخدمات الأساسية الأخرى.
وكما هو الحال في «الاستراتيجية النووية»، فإن «الردع الإلكتروني»، يعتمد «على قدرة كل خصم على توجيه ضربة أولى مؤثرة ضد عدوه». وأشار «كريس كريبس»، مدير وكالة الأمن السيبراني الأمريكي السابق،
إلى أنه في الوقت الذي بدأت فيه روسيا حربها بهجمات إلكترونية متعددة، أدت إلى «تعطيل مواقع الحكومة الأوكرانية، وقدرات الاتصالات السلكية واللاسلكية، والتأثير على الشبكات الصناعية الرئيسية»؛ إلا أنها فشلت في تعطيل الاتصالات تمامًا. ويرجع ذلك جزئيًا إلى سلسلة من التطورات الرئيسية في دفاعات كييف الإلكترونية، بمساعدة الغرب.
علاوة على ذلك، أشار الخبراء إلى «تأثير تفوق الأسلحة للدول الأصغر»، كرادع للعدوان في المستقبل. وفي حالة حدوث هجوم صيني على تايوان؛ يرى «راسموسن»، أن استراتيجية المقاومة المدعومة من الغرب، «يجب أن تستند إلى التفوق التكنولوجي»، مشيرًا إلى أن «قلب دفة الحرب» في أوكرانيا، يرجع أساسًا إلى إمدادها بأسلحة غربية متقدمة الصنع، وتنفيذها هجوما واسع النطاق، باستخدام الصواريخ المضادة للدبابات، والطائرات، والسفن، واستخدام الطائرات المسيرة، مع توفير الكثير من الأسلحة الأخرى.
ومع ذلك، حذر «ماورو جيلي»، من «المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا»، أنه بينما كانت روسيا تقوم بعملياتها العسكرية في أوكرانيا، بقوات «محدودة في نوعيتها وتقنيتها، وقدراتها»؛ فإنه لا يمكن الحكم مسبقًا على نفس الشيء بخصوص «الصين»، ودول أخرى. ومع إظهار حرب أوكرانيا، الإمكانات العسكرية الناتجة عن الاستخدام الواسع للطائرات المسيرة؛ فإن «أي منصة عسكرية تقليدية تكون عرضة للاكتشاف والتعقب وتحديد موقعها الجغرافي واستهدافها»، بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل، وبالتالي إضافة حدود جديدة للتطور التكنولوجي ونشر تلك التكنولوجيا.
على العموم، من التحليل الغربي حول منع النزاعات المسلحة الكبرى في المستقبل، من الواضح أن هناك عدة طرق لردع المهاجمين المحتملين، وعندما يتم الجمع بينها، فإنها توفر قدرات ردع قوية. ومع ذلك، فإن هذه المعايير ليست خالية من العيوب، حيث أضافت «سلوتر»، أنه إلى جانب الإصلاحات المادية، يجب على المجتمع الدولي «وضع حد لسياسة حافة الهاوية» في الجغرافيا السياسية العالمية، وشدد «راسموسن»، على الدرس الرئيسي المستفاد من حرب أوكرانيا، بأن «الردع سيفشل ما لم تتوفر رسائل قوية وموحدة قبل بدء الحرب».
تماشياً مع هذا، خلص المحللون إلى أن الطريقة الأكثر أهمية لردع العدوان المستقبلي بين الدول القوية العسكرية والدول المجاورة الأقل نمواً هي «ضمان النصر الأوكراني»، حيث إنه إذا كانت روسيا قادرة على ضم الأراضي بنجاح، أو «إقرار الوضع الراهن بالقوة»، ستستمر دول أخرى، مثل الصين وإيران وإسرائيل في النظر إلى فهم الوضع الجيوسياسي الطويل الأمد للغرب على أنه «ضعيف»، يركن إلى «التهدئة على المواجهة»، وبالتالي فتح الباب أمام الاعتداءات من دون مساءلة كافية.