24/01/2023
قراءة جيوستراتيجية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط
لطالما احتلت منطقة الشرق الأوسط «أهمية استراتيجية»؛ بسبب وقوعها في محور مركزي بين الشرق والغرب. وفي القرن الحادي والعشرين، لا تزال هذه الأهمية قائمة، حيث تعد المنطقة مصدرا لمتطلبات الطاقة العالمية، ومركزا للأديان والثقافات واللغات، بالإضافة إلى كونها مسرحًا للمنافسة الجيوسياسية بين القوى العالمية الكبرى. وكما أوضحت «نيكول روبنسون»، من معهد «هيرتاج»، فإنه بالإضافة إلى كونها موطنًا لأكثر من نصف احتياطيات النفط في العالم، فإنها «واحدة من أكثر المناطق التي لديها أعلى نسبة شباب في العالم، وأسرع نمو سكاني».
ووفقا لذلك، أشار «أنتوني كوردسمان»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، إلى أنه من المقرر أن تستمر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في كونها «مسرحًا استراتيجيًا رئيسيًا»، على صعيد الشؤون العالمية بالمستقبل المنظور، في ضوء أن الديناميكيات الاستراتيجية المستقبلية؛ يجب أن تراعي النقاط الساخنة الرئيسية للأمن الإقليمي، وتضع في الحسبان دور سوق الطاقة العالمي، ومنافسة القوى العظمى في التأثير على الأحداث.
وفي حين أن اهتمام الخبراء السياسيين والمعلقين، قد انصب على أوروبا الشرقية وحرب أوكرانيا، وتم توجيهه أيضًا نحو المحيطين الهندي والهادئ، والمنافسة الدائرة بين الولايات المتحدة والصين؛ فإن «كوردسمان»، يرى أن الشرق الأوسط، «سيبقى ذو أهمية استراتيجية رئيسية للقوى الخارجية الأخرى». ويرجع ذلك أساسًا إلى حقيقة أن المنطقة لا تزال «مركزًا حيويًا»، لإنتاج الطاقة. وبالإشارة إلى البيانات الواردة من «البنك الدولي»، أكد أنه في حين أن المنطقة تمثل 6% فقط من إجمالي سكان العالم، فإنها تحتوى على 65% من احتياطيات النفط في العالم، و45% من احتياطيات الغاز الطبيعي.
وبهذا المعنى، صدرت المنطقة في الفترة «2020-2021»، أكثر من 24 مليون برميل نفط يوميًا، أي ما يعادل 36% من إجمالي الصادرات العالمية. وفيما يتعلق باحتياطياتها النفطية، فإن لدى السعودية ما يقرب من (300 مليون برميل)، تليها إقليميا إيران (157,8 مليون)، والعراق (145 مليون)، والكويت (101,5 مليون)، والإمارات (97,8 مليون). وفيما يتعلق بالغاز الطبيعي، فبعد روسيا، تمتلك إيران أكثر من 17% من احتياطيات الغاز عالميا، تليها قطر (12,5%)، والسعودية (4,2%)، والإمارات (3,1%).
فيما يعد «تباين الأنظمة السياسية والدول المتنافسة بالمنطقة على احتلال الصدارة الدولية»؛ سببا آخر لاستمرار الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط. يقول «إيفان كراستيف» في صحيفة «فاينانشال تايمز»، إن البلدان التي يعتبرها الغرب «قوى وسطى»، مثل السعودية وتركيا، تستفيد من «الواقع الجديد» على الصعيد العالمي لإعادة تشكيل علاقاتها، مقتدين بنهج دول مثل الهند، وكوريا الجنوبية، وألمانيا، التي «صاغت هوياتها عقب الحرب الباردة، وسط عالم مترابط؛ حيث لا يمثل الشركاء التجاريون للفرد في كثير من الأحيان أقرب الحلفاء».
علاوة على ذلك، تعتبر جوانب عدم الاستقرار والصراع الإقليمي أيضًا ذات أهمية استراتيجية. وكتب «كوردسمان»، أنه بعد أكثر من عقد من توترات عام 2011، يتواصل «انهيار مؤسسات الدولة» في بلدان، مثل سوريا وليبيا واليمن، إلى جانب «الوضع الاقتصادي»، والخسائر الاجتماعية، التي تسببها النزاعات في إحداث تأثير على الأمن الإقليمي والدولي. وعليه، فقد استلزم الأمر مزيدًا من الاهتمام الاستراتيجي العالمي، مشيرا إلى كيف أن «التطور السيئ المتزايد للصراعات والأزمات»، «يمكن أن يؤدي إلى تداعيات إقليمية ودولية»، من خلال تدفقات الهجرة، والإرهاب عبر الحدود وغيرهما.
وعلى الصعيد الاقتصادي، من المقرر أن تمر المنطقة بفترة من التغيير مُصاحبة للطفرة السكانية المتوقعة. وفي حين نجحت دول الخليج في تطوير اقتصادات قوية مع أرقام صندوق النقد الدولي، التي تُظهر نمو ناتجها المحلي الإجمالي بنسبة 6,5% في عام 2022 وحده؛ فقد رأى «كوردسمان»، أن البلدان الأقل تقدمًا اقتصاديًا لديها «إمكانات كبيرة» لامتلاك اقتصادات مزدهرة»؛ نظرًا لكونها «غنية بالتاريخ والموارد»، و«تتمتع بخصائص ديموغرافية مواتية، وموقع جيوسياسي استراتيجي». وفي ضوء معدلات النمو الاقتصادي «المنخفضة بشدة» في مثل هذه البلدان، عزز الحاجة إلى «تحول هيكلي في السياسة المالية الإقليمية، وهو ما يستلزم إصلاحًا لإزالة العقبات البيروقراطية، وتنويع الاقتصادات بعيدا عن صادرات الطاقة.
ويأتي مستقبل سوق الطاقة العالمية، جنبًا إلى جنب مع الاهتمامات الاقتصادية المستقبلية في الشرق الأوسط. وتعكس البيانات الصادرة عن «البنك الدولي»، كيف أن دول المنطقة لا تزال تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مبيعات الطاقة في التمويل والإنفاق الحكومي، حيث شكلت صادرات الطاقة 32,2% من الناتج المحلي الإجمالي العراقي في عام 2020، و31,6% في الكويت، و21,1% في ليبيا، و19,4% في عمان، 17,7% في السعودية، 17,2% في إيران، 11,7% في قطر، 11,5% في الإمارات، 7,4% في البحرين.
وفي ضوء توقعات انخفاض الاعتماد العالمي على مصادر الطاقة التقليدية مستقبلا؛ فقد تضاءلت أهمية نفط الشرق الأوسط في اقتصاد الولايات المتحدة، وهو ما يُشار إليه بأنه «تغيير بالمشهد الجيوسياسي للمنطقة». وفي حين أن الواردات البترولية العالمية بلغت ذروتها في عام 2005، فقد انخفضت منذ ذلك الحين، حيث فاق الحجم السنوي لصادرات النفط الخام الأمريكية في عامي 2020 و2021، الواردات.
إلى جانب ذلك، فإن تفضيل «واشنطن»، للنفط المستورد من دول «أوبك»، بما فيها الخليجية، قد تضاءل من 85% في عام 1977، إلى 11% فقط عام 2021. وفي المقابل، فإن وارداتها من النفط الخام من كندا قفزت من 500,000، إلى أكثر من 4,3 مليون برميل يوميًا، وأضحت تمثل الآن 51% من واردات النفط. ومع التوقعات بأن يرتفع إنتاجها من النفط بنسبة 17% ، وزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي بنسبة تصل إلى 25%، يبدو من المؤكد أن الطلب على واردات النفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط، سيستمر في الانخفاض.
ومع ذلك، رفض «كوردسمان»، الاقتراحات القائلة بأن تقليل الاعتماد الأمريكي على صادرات الطاقة من الشرق الأوسط، يقلل الأهمية الاستراتيجية لدول المنطقة بالنسبة لواشنطن، مشيرًا إلى أن الواقع «مختلف للغاية»، حيث لا يمكن أن يكون هناك «نهاية مفترضة لاعتمادها على التدفقات الآمنة والمستقرة للصادرات النفطية من المنطقة، على أساس أن اقتصادها لا يزال يعتمد على أسعار النفط والغاز العالمية معقولة التكلفة». وربما كانت تلك الاقتراحات، جراء الارتفاع الكبير في أسعار الوقود الأمريكية في ضوء الحرب الأوكرانية، وأزمة الطاقة العالمية، والتي أدت إلى إطلاق «واشنطن»، عشرات الملايين من براميل النفط من احتياطاتها البترولية الاستراتيجية.
من ناحية أخرى، لا يزال قطاع تصدير الطاقة في الشرق الأوسط، وثيق الصلة بتلبية التحولات التي تشهدها الاقتصادات الآسيوية المزدهرة. ووفقًا لـ«إدارة معلومات الطاقة الأمريكية»، فإنه من المقرر أن يتضاعف استهلاك الطاقة السائلة (الوقود) بحلول عام 2050 في الدول غير الأعضاء في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، بما في ذلك الصين والهند وإندونيسيا، الذي ستشهد ارتفاعا في مستويات طلبها، مدعومة «بشكل أساسي»، بزيادة معدلات الإنتاج في الشرق الأوسط».
وبالمثل، توقعت «منظمة أوبك»، أن الطلب العالمي على النفط، سيرتفع من 88 مليون برميل يوميًا في عام 2021، إلى أكثر من 100 مليون برميل بحلول عام 2045، وسيظل النفط منتج الطاقة الأعلى عالميًا بحلول منتصف القرن. وأضاف «كوردسمان»، أن البلدان، التي تتلقى بالفعل كميات هائلة من صادرات الطاقة من الخليج والشرق الأوسط، مثل الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية؛ من المؤكد «أن تزيد هذه الصادرات في الوقت الذي تحاول فيه تقليل اعتمادها على الفحم، والاتجاه نحو استخدام الغاز الطبيعي كبديل».
وكما أوضح الباحث، فإن هذه الأرقام تعتمد على العديد من العوامل، التي يصعب توقع تأثيراتها في السنوات السابقة، بما في ذلك كيف يمكن لتداعيات التغيرات المناخية، أن تؤثر على «التوقعات المختلفة جذريًا للتأثيرات الاستراتيجية المستقبلية لصادرات النفط والغاز» من الشرق الأوسط. وبالفعل، أشارت «وكالة الطاقة الدولية»، إلى وقوع «تأثيرات طارئة خطيرة»، إذا نفذت الدول الغربية بنجاح سياساتها لخفض الانبعاثات الكربونية، والتي تشمل تعهدات بانبعاثات صفرية صافية من قبل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا وألمانيا، وغيرها.
ويمثل «تغير المناخ»، بحد ذاته «اعتبارًا استراتيجيًا رئيسيًا»، يؤرق الشرق الأوسط. وأشار «البنك الدولي»، إلى أن «الصدمات المناخية»، أصبحت «أكثر تواترًا في المنطقة بالمقارنة مع بقية دول العالم»، لا سيما في ضوء موجات الجفاف الشديدة والفيضانات والعواصف، التي تؤثر على سبل العيش، وتهدد بجعل مناطق واسعة غير صالحة للسكن والاستقرار. ووفقًا لـ«منظمة الأمم المتحدة للطفولة» (اليونيسيف)، فمن أصل 17 دولة تعاني من الإجهاد المائي في العالم، تقع 11 دولة في المنطقة، وتشمل دول الخليج. وأضاف «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، أن 18 من أصل 22 دولة عربية تواجه «مستويات خطيرة من ندرة المياه». وبينما حث «البنك الدولي»، على «الحاجة إلى تبني سياسات معنية بالتكيف والتخفيف» من آثار الصدمات المناخية، فقد أشار إلى أن «الاستجابة للتغيرات المناخية» في المنطقة، «كانت أقل مقارنة بنظيراتها في باقي دول العالم».
من جانب آخر، فإن المخاطر المناخية سيصاحبها «طفرة» متوقعة في تعداد سكان المنطقة، بمعدل سيكون ثاني أسرع معدل في العالم، بمتوسط زيادة سنوية 1,3% من 2020 إلى 2050، حيث من المتوقع أن يصل عدد سكان المنطقة من 287 مليون نسمة، إلى 420 مليونا، بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 70% تقريبًا. وعليه، فإن هذه التضخمات السكانية، في وقت تتفاقم فيه التغيرات المناخية، وارتفاع درجات الحرارة؛ يمكن أن تنعكس في طفرات غير مسبوقة في موجات هجرة عبر الحدود، وضغوط اقتصادية هائلة، وتفاقم في حالة عدم الاستقرار السياسي.
وبالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لديناميكيات «الطاقة»، و«الاقتصاد»، و«المناخ»، و«التعداد السكاني»، أشار «كوردسمان»، إلى تأثر المستقبل السياسي لدول المنطقة، «بالمواجهات الاستراتيجية المتزايدة بين القوى الكبرى»، سواء أكان ذلك داخليًا أم خارجيًا. وبينما تتوتر علاقة «الولايات المتحدة»، مع العديد من حلفائها الإقليميين، قامت «الصين»، بتوسيع شراكاتها الاستراتيجية الشاملة مع معظم دول المنطقة، بما في ذلك شركاء واشنطن الأمنيين. وكما أشارت مؤسسة «فريدريش إيبرت»، فإن «بكين»، تسعى من خلال مبادرة «الحزام والطريق»، إلى ربط تجارتها بالشرق الأوسط وإفريقيا، وتعزيز «دعم سبل التنمية والاتصال» مع شركاء اقتصاديين وسياسيين خارجيين، فضلا عن زيادة «الانفتاحات الجيوستراتيجية، والمواقف العسكرية»، وهو ما سيقلل من دور واشنطن، باعتبارها مزود الأمن الرئيسي في المنطقة.
وعليه، حذر «كوردسمان»، من أن «مستوى المواجهة المتزايد بين «بكين»، و«واشنطن»، وحلفائهما قد يؤدي إلى «خطر خوض القوى الكبرى حربًا على صادرات الطاقة القادمة من المنطقة». وفي هذا الصدد، سلط الضوء على أهمية قناة السويس، ومضيق هرمز؛ كنقطتين رئيسيتين محتملتين للتورط في أي أزمة أمنية إقليمية، مؤكدًا على أهمية الحفاظ على الأمن الإقليمي، وضمان بقاء المنطقة مستقرة لسلامة عمليات التحليق الجوي»، والحفاظ على استمرار فتح الممرات المائية بها، خالية من أي توترات أو تدخلات خارجية.
على العموم، قدم «كوردسمان»، حجة قوية لاستمرار الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط، بالنسبة للمجتمع الدولي. وفي حين أن أوروبا الشرقية وشرق آسيا، قد شهدت تحولًا ملحوظًا في الاهتمام الاستراتيجي الغربي في السنوات الأخيرة، فلا يمكن إنكار وجود عدد من المخاوف المتعلقة بأمن الطاقة، وحماية حركة النقل التجاري، ومكافحة الإرهاب، والأمن الغذائي، وحالة عدم الاستقرار السياسي بالمنطقة، والتي تمثل مخاوف استراتيجية رئيسية للقوى الخارجية في الوقت الراهن. وعندما تقترن تلك المخاوف بالتغيرات المناخية، والازدهار السكاني المتوقع، فإنه لا يمكن إنكار أن المنطقة، ستظل مركز اهتمام الشؤون الدولية، كما هو الحال طوال الحقب الماضية.