top of page
12/4/2019

الطلاق الأوروبي - البريطاني.. وإخفاقات «تريزا ماي»

للمرة الثالثة، رفض مجلس العموم البريطاني يوم 29 مارس اتفاق بريكست الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي، إذ صوت 286 عضوا لصالح الاتفاق ورفضه 344. الأمر الذي ضيق الخناق على «ماي» التي لم يتبق أمامها سوى مهلة قصيرة، يتعين فيها على المملكة المتحدة تحديد ما إذا كانت ستخوض انتخابات البرلمان الأوروبي 2019. أو أنها ستسلك مسلكًا آخر.
ورفض مجلس العموم البريطاني خطة البريكست مرتين قبل ذلك؛ الأولى فى 13 مارس، حيث صوت 391 نائبا ضدها، في حين صوت 242 لصالحها، كما رفضت الخطة في صورتها الأساسية في 15 يناير، وكان التصويت ضد اتفاق الخروج بأغلبية 432 صوتا، مقابل 202 صوت. 
وكان من المقرّر أن تخرج بريطانيا من الاتحاد يوم 29 مارس، فيما أسماه البعض «يوم الاستقلال»، غير أنه وفقا لعديد من المحللين، فإن رفض الاتفاق مجدّدا يفرض عليها إعداد خطة جديدة، أو احتمالات الخروج من التكتل «من دون اتفاق» أو ما يعرف بـ«خروج قاس»، أو تأجيل العملية برمّتها لفترة طويلة، الأمر الذي يجعلها تواجه سيناريو فوضوى. فخروج غير منظم يعنى تأثيرا بالغ الضرر على مفاصل الدولة خاصة من الناحية الاقتصادية. وفي هذا الصدد قالت صحيفة «واشنطن بوست»، إن «البريكست أدى إلى اكتظاظ النظام السياسي البريطاني، وهو ما يعني أسوأ الخيارات للبلد، وهو الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون آلية جاهزة للإشراف عليه».
وفي محاولة لتخطي الأزمة السياسية طلبت «ماي» من «دونالد توسك»، رئيس المجلس الأوروبي، إرجاء بريكست حتى 30 يونيو 2019. وتمديد العمل بالمادة (50) من اتفاقية لشبونة التي تنظم خروج دولة عضو من الاتحاد الأوروبي، مؤكدة أنها «لا تزال تسعى للحصول على اتفاق يسمح للمملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي قبل 23 مايو 2019. ومن ثم إلغاء المشاركة في الانتخابات الأوروبية»؛ لكنها أشارت إلى أنّها «ستواصل التحضير لإجراء تلك الانتخابات في حال لم يكن ذلك ممكنا».
جاء هذا في الوقت الذي اقترح فيه «توسك» إرجاءً «مرنا» لبريكست يمتد إلى عام كحد أقصى. غير أنّ هذا المقترح قد أثار حماسة كل الدول الأعضاء القلقة من إبقاء المملكة المتحدة مدى طويلا ضمن الاتحاد الأوروبي بصورة تضع خلالها قدما داخل الاتحاد وأخرى خارجه، ما من شأنه أن يخل بعمل هذه المنظمة بشكل دائم. وفي هذا الصدد، اعتبرت «فرنسا»، أن «الحديث عن التمديد هو أمر سابق لأوانه، مؤكدة أن «الشائعات حول التمديد هي «بالون اختبار في غير محله، وأنه أداة وليس الحل في ذاته». في حين طرحت الدول الـ27 شرطا واضحا يتمثل في أن يكون هذا الطلب مبررا بخطة واضحة». 
يقول «انان مينون»، من جامعة «ينغز كولدج» بلندن، إنّ «تيريزا ماي تريد من خلال مقترحها الاحتماء سياسيا وعدم جلب انتقادات المؤيدين لبريكست»، مؤكدا أن هذا المنطق هو «مناورة سياسية»، لأنها تعرف أنه سيجب عليها الموافقة على تمديد أطول بذريعة الرفض الأوروبي لطلبها الأساسي.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن رئيسة الوزراء دخلت في أزمة سياسية بعد رفض النواب البريطانيين ثلاث مرات الاتفاق الذي توصلت إليه مع الاتحاد الأوروبي، وتم إلصاق تهمة الفشل بها، بل وتصاعدت الأصوات المنادية برحيلها، وهو ما دفعها إلى إخبار لجنة «1922» في حزبها المحافظ يوم 27 مارس، بأنها «ستتخلى عن منصبها كزعيمة للحزب ورئيسة للحكومة إذا نجحوا في التصويت لصالح اتفاقية «البريكست»، مؤكدة علمها بوجود «رغبة في اتباع نهج جديد وقيادة جديدة في المرحلة الثانية من مفاوضات البريكست».
ونتيجة لذلك، يُفكر ما لا يقل عن 10 مترشحين ينتمون إلى أيديولوجيات مختلفة الترشح لقيادة حزب المحافظين مع ترجيح الكثير من المراقبين قرب استقالتها لتزايد الضغوط السياسية عليها من المعارضة وحزبها. وعلى رأسها، حزب العمال، والذين يؤيدون الرغبة في الإطاحة بالحكومة. وكان زعيمه «جيريمي كوربين»، قد استفاد من حالة عدم الرضا حول اتفاق الانسحاب؛ لمهاجمة رئيسة الوزراء. ولعل معارضة اتفاق الانسحاب والتصويت ضده أثناء تمريره من خلال البرلمان، سيوفر لحزب العمال ذريعة يمكن من خلالها إجراء تصويت بحجب الثقة عن رئيسة الوزراء في مجلس العموم.
ومع ذلك، فقد انقسم الرأي العام حول «ماي»، بين من يرى أنها «من بين أسوأ الشخصيات في تاريخ بريطانيا السياسي الحديث»، وبين من يرى أنه «لم يكن لأحد في محلها إدارة أزمة الخروج بصورة أفضل». وحاول بعض الأكاديميين إيضاح أنها لم تكن في الواقع رئيسة وزراء سيئة؛ فأي رئيس وزراء بصرف النظر عن موهبته أو الكاريزما التي يتمتع بها أو تفكيره، لم يكن ليكافح بإصرار من أجل معالجة التعامل مع البريكست على نحو أفضل منها. وقال «توم كلارك»، من مجلة «بروسبكت»، أنه «من الطبيعي أن يكون موقفها ضعيفًا لأنه كان من المقدر لها أن تتولى مهمة الخروج مهما كانت أخطاؤها وتقديراتها السيئة». كما أكد «داليبور روهاك»، من معهد «أمريكان إنتربرايز»، أنها «تولت رئاسة الوزراء خلال فترة قصيرة».
في حين رأى آخرون، أنه باختلاف المنظور الأيديولوجي أو الولاءات السياسية فإن «ماي»، تُعد نموذجًا لرئيسة الوزراء العاجزة والمُضللة، فهي لم تكن قادرة على السيطرة على حكومتها المنقسمة على نفسها، أو حتى على أعضاء حزبها المحافظ، ما عرقل تمرير التشريعات الحكومية، وقلل من شعبيتها الانتخابية، وأيدوا رؤيتهم بالعديد من الأمثلة على ذلك ومنها:-
أولاً: دعوة ماي إلى انتخابات مبكرة عام 2017 نتيجة لانقسام البرلمان، وأملاً في زيادة شعبيتها، وحزبها، وهو ما أتى بنتائج عكسية نجم عنها خسارة المحافظين لـ13 مقعدًا، بينما حصد حزب العمل، 30 مقعدًا. ومع وجود 318 نائبا محافظا يفوقهم عددًا 325 من «غير المحافظين»، لم تستحوذ رئيسة الوزراء على الأغلبية المطلقة. وساعدت تلك الحسابات الخاطئة في تزايد الرفض لها بين أعضاء حزبها والمعارضة على حد سواء. وهو ما أيده «توماس رايت»، من معهد «بروكينجز»، بقوله «يُنظر إلى رحيلها على أنها المرحلة الأخيرة من مراحل فقدانها السيطرة التي بدأت في 8 يونيو 2017. عندما أهدرت أغلبيتها البرلمانية في انتخابات مبكرة». وبحسب «فيليب جونستون» في صحيفة «ديلي تلغراف»، فإن «هزيمة ماي تعد أكبر إذلال في التاريخ لرئيس وزراء بريطاني ويجب عليها عدم الاستمرار في منصبها».
ثانيًا: افتقارها إلى السيطرة على حزبها وحكومتها التي شهدت عددا من الاستقالات، بلغ 28 استقالة خلال عامين وثمانية أشهر؛ كأحد التأثيرات الضارة لأدائها في انتخابات عام 2017. وهو ما دفع إلى إضعاف قدراتها السياسية، وهو ما أكده «ماثيو دانكونا»، في «صحيفة الجارديان»، من أن «التفاوض على خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، بمثابة «اختبار لأقوى الحكومات، وفي هذه الحالة نحن أمام أضعف حكومة فهي تفتقر إلى وضوح الهدف والتعاون في توجيه دفة الأمور والقيادة القوية، ما يجعل ماي نفسها في موقف ضعف». 
ثالثًا: فشلها في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي؛ نتيجة لتبنيها مواقف عدائية. ويوصف نهجها بالنهج المتسلط للتفاوض من أجل الهروب من ضعفها الملحوظ، وهو ما أوضحه تقرير لمجلة «ذي إيكونوميست»، من أن ماي «بدأت برسم خطوط حمراء والوعد بخوض معارك ضارية على نهج تاتشر مع الاتحاد الأوروبي، بيد أنها فشلت في فهم عدم قدرتها على التفاوض». وفي الواقع كان الاتحاد الأوروبي هو الذي وضع جدول الأعمال، وحدد تسلسل المفاوضات وقام بمعظم الصياغة». 
رابعًا: فشلها في التواصل مع نظرائها الأوروبيين، وهو ما يجعلها غير راغبة أو قادرة على التفاوض بفاعلية لحل الأزمة الراهنة. وتؤكد «جيني راسل»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، الأمريكية، أنه «يمكن الجزم أن عدم مقدرة ماي على تطوير أو خلق شبكة ذات ثقل من التحالفات أو الصداقات أو التفاهمات المتبادلة حيال توجهاتها السياسية هو ما دمر كليًا مهام وظيفتها كرئيسة للوزراء وعطل عملية البريكست منذ بداياتها، وصولا إلى المأزق الحالي».
خامسًا: عدم الالتزام بإدارة ملف الخروج في المدة المقررة له، ما دفعها إلى المطالبة بتمديد فترة المفاوضات، الأمر الذي قلل من فاعلية حكومتها، وأفقدها القدرة على التأثير، وجعل تركيزها ينصب على التعامل مع مشروعات القوانين المتعلقة بعملية الخروج من دون أن يكون لديها طموحات تشريعية للتأثير عليها. 
سادسا: تراجع ملف السياسة الخارجية لبريطانيا، ولا سيما في وزارتي التجارة والخارجية اللتين ركزتا جهودهما على مساندة عملية الخروج بأي ثمن منذ عام 2016. وذكرت صحيفة «الجارديان» أن «المملكة المتحدة أصبحت في موقف تفتقد فيه عدم وجود سياسة خارجية متماسكة في ضوء المفاوضات الدولية المتعلقة بالبريكست والتي استنفدت قوة الحكومة برمتها».
على العموم، وصلت فوضى المشهد السياسي البريطاني إلى ذروتها في ظل المعركة السياسية الدائرة في لندن على خلفية البريكست، ما قد يجبر الحكومة إلى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع مجددًا، أو تقديم رئيسة الوزراء استقالتها التي لوحت بها سلفًا، أو اللجوء إلى عمل استفتاء آخر حول ما إذا أراد البريطانيون البقاء في الاتحاد الأوروبي أو المغادرة. ويظل الخيار الأصعب والكارثي، وهو الموصوف بأنه «انتحار وطن»، هو خروج بريطانيا من دون تنسيق أو اتفاق.

 

{ انتهى  }
bottom of page