23/3/2019
التهديدات المستقبلية لـ«داعش» و«القاعدة» والتنظيمات المتطرفة
اتسمت عناوين الصحف العالمية بنبرة تفاؤل في الفترة الماضية، بشأن تراجع تهديدات التنظيمات الجهادية العالمية، لا سيما مع هزيمة تنظيم داعش في العراق وسوريا، بالإضافة إلى انخفاض عدد هجمات الجماعات الإرهابية في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ولكن هل هذا التفاؤل مبني على مؤشرات جدية؟
«جون ميرشيمر» بجامعة شيكاغو الأمريكية تناول هذا الموضوع، بمجلة فورين بوليسي، يوليو 2018، قائلاً: «رغم وجود تهديدات إرهابية جدية من قِبَل الجماعات الجهادية السلفية، إلا أن خطورتها تمت المبالغة في تصويرها في حين هناك جماعات أخرى أكثر دموية».
ويشير تقرير الخارجية الأمريكية السنوي عن أعمال الإرهاب حول العالم عام 2017، إلى وقوع 8584 عملاً إرهابيًّا العام الماضي، قُتِل فيها أكثر من 18700 شخص، ربعهم من الإرهابيين. وعلى الرغم من أن التقرير يؤكد أن الأعمال الإرهابية تراجعت هذا العام على المستوى الدولي بنسبة 23%، إلا أنه حذر من أن تنظيمي داعش والقاعدة وأتباعهما تمكنوا من التأقلم مع خسائرهم بانتهاج أسلوب التفرق، الأمر الذي جعل التحرك العسكري ضدهم أكثر صعوبة، بعد أن قطعت الولايات المتحدة وشركاؤها شوطًا كبيرًا ضد الجماعات المتطرفة العام الماضي، وكأن الولايات المتحدة لا تعتبر الأرقام دليلاً على تراجع تهديد التنظيمات المتطرفة.
هذه التهديدات ومدى تطورها مازالت تمثل قلقًا أمنيًّا متزايدًا، وهو ما تطرق إليه تقرير سيث ج. جونز، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، حيث قال إنه «من الخطأ الجزم بأننا انتصرنا على الأعمال الإرهابية، وتخصيص جميع مواردنا في سياق آخر، في حين أن التهديدات مازالت جدية وخطيرة»، متبنيا نظرة قاتمة مفادها أن تلك النوعية من أعمال العنف، التي ميزت الجماعات الإرهابية، لا تزال تمثل تهديدًا ملحوظًا.
وبعيدًا عن اختلاف الرؤى بين المحللين حول مدى خطورة تلك الجماعات واستمراريتها، فقد أعد جونز موضوعًا مهمًّا يستوجب اهتمامًا للتصدي للتهديدات التي تمثلها هذه الجماعات.
فجونز قدم في تقريره رؤية شاملة لكافة التيارات الحالية التي تدير دفة تطرف الجماعات المتطرفة، واستشهد بدلائل كمية وأخرى نوعية لتقديم صورة دقيقة لمستويات قوتها وحجمها ونطاق نفوذها وقدراتها، موضحًا أن تلك الجماعات تزايدت من حوالي 5 جماعات عام 1980 إلى 67 حتى تاريخه، ومن الجدير بالذكر أن نصف هذا العدد لم يظهر إلى النور إلا بعد 3 أعوام من موجة احتجاجات عام 2011، والحروب الأهلية التي خلفت وراءها فراغًا سياسيًّا وأمنيًّا، وبالتالي سرعان ما اكتسبت تلك الجماعات قسطًا من الاستقلالية والحكم الذاتي.
وتشير التقديرات إلى أن أعداد المقاتلين الموجودين في صفوف تلك الجماعات قد تضاعفت من 100 ألف عام 1980 إلى 230 ألف مقاتل عام 2018، ويتركز معظمهم في دول مثل باكستان وبنجلاديش وإندونيسيا وأفغانستان.
وبجانب الدلائل الكمية التي أشار إليها الباحثون وقواعد البيانات العسكرية الأمريكية، هناك دلائل نوعية أخرى تبين صحة استمرارية التهديدات، ومنها التكتيكات المتطورة والموارد والأهداف المتبناة من قِبَل هذه الجماعات.
ويوضح التقرير خطأ الروايات الغربية بشأن تراجع أعمالها الإرهابية، فكل ما حدث أن هذه الجماعات جنّدت عناصر جديدة تنتمي إلى الدول المستهدفة، من أجل تنفيذ هجمات داخلها، لا تتم من قِبَل منظمات إرهابية بارزة، ولكن بحسب التقرير، فإنها تتم بأيدي «شبكات وأفراد يتم غسل أدمغتهم آيديولوجيا».
ولكن التقرير أوضح أنه «بدون تلقي تلك الشبكات لأي دعم مباشر، فإنها تظل غير بارعة في أداء مهامها الإرهابية، إلا أنها مع الوقت قد تكون خطيرة ودموية إلى أبعد حد».
ووفقا لذلك فإنه من الصعب مراقبة أو كشف أي هجمات إرهابية في أماكن، مثل لندن وباريس وبرشلونة واستوكهولم وبرلين، كما أنه لا يمكن التقليل من شأن التهديدات التي تمثلها حتى لو كانت الهجمات بتلك الدول المذكورة آنفًا أقل قوة من بقاع أخرى.
في المقابل يستند بعض المحللين في تقليلهم من شأن استمرارية التهديدات التي تمثلها هذه الجماعات، إلى كونها مستقلة عن تنظيم داعش في العراق والشام وتنظيم القاعدة، فهي أقل عنفًا من تلك الجماعات التي تنتمي إلى تنظيمي القاعدة أو داعش في العراق وسوريا، كما أن تقوقع تلك الجماعات على ذاتها في كل من رؤيتها وقدراتها العملية، مثل (حركة أحرار الشام الإسلامية في سوريا، وطالبان الأفغانية، وتنظيم لاشكار الطيبة الباكستاني)، يجعلها لا تمثل تهديدًا مباشرًا للدول الغربية.
أما بالنسبة إلى تنظيمي القاعدة وداعش، فعلى الرغم من تراجعهما والفروع المنتمية لهما، إلا أنهما يمثلان تحالفات إرهابية متشعبة، وفي حين أن كلا التنظيمين أقل انتشارًا مما كانا عليه إبان هجمات 11 سبتمبر 2001 على يد تنظيم القاعدة، وتنامي الجماعة التي كونت تنظيم داعش في العراق والشام عام 2016، إلا أنهما يمثلان تهديدًا متناميًا ومتصاعدًا، ويظل تنظيم داعش في العراق والشام الأكثر خطرًا على الرغم من الانتكاسات التي طالته، فقد نفذ بنجاح 4000 هجمة عنيفة في كل من العراق وسوريا بمفرده طوال عام 2017، وهو العدد الذي يتخطى حاجز الـ3000 هجمة التي أطلقها عام 2015، وهو العام الأول للتنظيم في بداية تشكيله نطاق خلافته الإسلامية.
وربما ترجع قوة تنظيم داعش إلى ممارسته تكتيكات حرب العصابات الإرهابية، ولا سيما بعد الخسائر في المناطق التي كان يسيطر عليها، وهو ما تجلى في القدرة على التكيف الاستراتيجي في تواصل قيادته المركزية مع أفرعه والجماعات المنتمية إليه.
وفي السنوات الأخيرة، استطاع التنظيم استغلال حالة عدم الاستقرار في مناطق، مثل ليبيا واليمن والفلبين والنيجر وأفغانستان، من أجل تجنيد فصائل داخلية تنتمي إليه وتتعهد له بالولاء، ولاحظ كاتبو التقرير أن «الهيكل التنظيمي لتنظيم داعش أبعد ما يكون عن المركزية، وبالتالي كل ولاية محلية تتمتع باستقلالية في إدارة شؤون أعمالها اليومية، وهو ما مكّنها من استمرارية عملها إلى وقتنا الحاضر».
وعلى عكس تنظيم القاعدة، الذي كان صارمًا في الالتزام بضمان التسلسل التدريجي في تولي مناصب القيادة، فإن الاستقلالية والحكم الذاتي اللذين يتمتع بهما تنظيم داعش وأفرعه جعلته غير معتمد لوجستيًّا وماليًّا وآيديولوجيا على دمشق وبغداد، وهو ما زاد من مرونته.
وعموما فإن مقارنة كفاءة تنظيم داعش بالقاعدة تصب في صالح الأول، ففي المجموع، نفذ المنتمون إلى داعش ما يصل إلى 4800 هجوم في عام 2017، مقابل1300 هجوم من قِبَل القاعدة. ومع ذلك، لا تزال القاعدة تشكل تهديدًا لأسباب أخرى، والتي منها ما يجعلها حركة أكثر استدامة على المدى الطويل من داعش، وأحد تلك الأسباب هو استعدادها للانضمام إلى التمردات المحلية القائمة، بالنظر إلى اعتناقها العقائدي لفكر القومية، وذلك على النقيض من داعش الذي يرى في القومية انتهاكا للتوحيد.
من الواضح إذن أن التحليل النوعي والكمي يشير إلى أن إرهاب هذه الجماعات بشكل عام مازال يُشكل تهديدًا قويًّا، بالنظر أيضا إلى ضعف ما استند إليه المحللون، الذين يرون تراجع التهديد، ويُشير المؤلفون إلى وجود 3 عوامل أساسية من المرجح أن تعزز الانتشار الفعلي للمجموعات الإرهابية الدولية، وهي: التقدم التكنولوجي، واستمرار الدافع الأساسي وراء الإرهاب، بالإضافة إلى التحول الجيواستراتيجي الغربي، بعيدا عن التركيز على عمليات مكافحة الإرهاب.
فأولا، يوضح التقرير أن التقدم التكنولوجي، كما هو الحال في مجال تكنولوجيا الطائرات من دون طيار، سيعمل على تعزيز القدرات الهجومية لهذه المنظمات والشبكات. كما أن الطائرات من دون طيار وغيرها من التقنيات المذكورة، مثل تعزيز القدرات السيبرانية لاختراق البنية التحتية للدولة أو التشويش على أجهزة الرادار، متوافرة بالفعل لدى ترسانة تلك الجماعات المُتطورة والممولة جيدًا، وقد تم نشرها محليًّا وضد الغرب أيضًا في السنوات الأخيرة، فضلا عن أن البعض الآخر، مثل الذكاء الاصطناعي وأسلحة الدمار الشامل، التي تم الاستيلاء عليها من بعض الدول أو التي تمكنت من تصنيعها، تُثير المخاوف في المستقبل.
من ناحية أخرى، عززت التكنولوجيا أيضا من القدرات الإدارية والتنظيمية لهذه الجماعات، في المقام الأول، من حيث تسهيل حصولها على التمويل المالي وتجنيد العناصر القتالية. كما سمحت العملات «المشفرة» ووسائل التواصل الاجتماعي للمنظمات الإرهابية الدولية من زيادة تمكنها من تجنيد أتباع، وكذلك تأمين حصولها على التمويل من المتعاطفين معها في جميع أرجاء العالم، في حين سمحت لهم وسائل، مثل الاتصالات المشفرة والإنترنت، بالانتشار بدرجة متزايدة، من دون الكشف عن هويتهم، والبقاء بمنأى عن يد الدولة.
في المقابل هناك باحثون ومحللون آخرون تناولوا أسباب قوة واستمرار هذه الجماعات، ومن هؤلاء، عمرو العظم، الأستاذ بجامعة شاوني الأمريكية، والذي أوضح في تقرير لمجلة فورين بوليسي عام 2017، العلاقة مع داعش، وهي العلاقة التي وصفها بالفشل من جانب القوى الخارجية والحكومة الأمريكية، خاصة في معالجة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ورد المظالم السياسية لكثير من السكان السنة؛ مما يترك البلاد عرضة للتنظيم العائد مرة أخرى.
كما كتب العظم: «في سوريا والعراق، تكفل التحديات المستمرة للتقسيم والمتغيرات الإقليمية استمرار التوترات العرقية والطائفية المستعصية في تأجيج التطرف، مما يسمح في نهاية المطاف بمعاودة ظهور تنظيم داعش عقب إعادة تجسده مرة أخرى».
جونز ورفاقه تجاهلوا شيئا مهما قد يكون سببا في تزايد تلك التهديدات، وهو ضعف اهتمام الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى بمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، مع زيادة التنافس والصراع بين الدول والناجم عن عداوات، مثل روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين، مع دول مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المُتحدة.
كذلك فإن إدارة ترامب، وسياسته في إعادة توجيه السياسة الخارجية وأولويات الدفاع بعيدا عن التركيز على مُكافحة الإرهاب، سبب آخر في تلك التهديدات، حيث يخلق هذا الفراغ الناجم عن انسحاب القوات في غرب إفريقيا وسوريا وغيرها، فضلاً عن قطع التمويل عن الشركاء في الحكومة المحلية، البيئة التي يُمكن أن تزدهر فيها الجماعات المذكورة.
وهو ما يوضحه فراس حسانوش، في تقرير له في «مجلس الأطلسي»، والذي جاء تحت عنوان، خطة ترامب لسحب القوات من سوريا، قائلا: «من الممكن أن يتضاعف خطر عودة ظهور داعش، في حال انسحبت القوى التي تحاربه من المعركة قبل نهايتها، مما يفتح الطريق أمام عودة جيل جديد وأكثر دموية».
وبصفة عامة، وبغض النظر عن هذه الفجوة التحليلية الواضحة في تقرير جونز ورفاقه، فإن ما رأوه من استمرار تهديدات هذه الجماعات هو الأقرب، وإن تراجع هجماتها لا ينسحب بالضرورة على تراجع التهديدات التي تمثلها حاليا وفى المستقبل، في ظل تطوير أدواتها وتجنيد أفراد وشبكات داخل الدول المستهدفة، وتكوين تحالفات إرهابية، فإذا كان هناك محللون متفائلون بالنظر إلى تراجع الهجمات وقوتها مؤخرا، فإن هذا لا ينفي استمرارية التهديد.