5/3/2019
التعاون الاقتصادي بين أوروبا وإيران وانعكاساته على العلاقات مع أمريكا
على ما يبدو، لم تفلح قوة المصالح الاقتصادية بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتأثير قطاع الأعمال المعبر عن هذه المصالح، والجهود التي بذلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حمل أوروبا على أن تكون طرفًا كاملاً في العقوبات الاقتصادية الأمريكية على طهران، والتي استهدفت شل اقتصادها بغرض وقف سياستها وتدخلاتها الخارجية التوسعية في الشؤون الداخلية لجيرانها، ودعمها للإرهاب، وعبثها بالاستقرار الإقليمي والدولي؛ حيث أعلنت مجموعة من الدول الأوروبية يوم 31 يناير2019 أنه من المقرر إطلاق آلية تجارية ذات أهداف خاصة مع إيران، تسعى من خلالها إلى تجاوز العقوبات التي فرضتها واشنطن عليها في العام الماضي.
وكشف وزراء خارجية كل من بريطانيا، جيريمي هانت وألمانيا هايكو ماس وفرنسا جان لودريان عن آلية لدعم التبادلات التجارية (INSTEX)، والتي تهدف إلى تيسير التجارة مع طهران، بعيدًا عن نظام الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت)، الذي قطع تعاونه مع البنوك الإيرانية بسبب العقوبات الأمريكية، ونظام التجارة العالمي القائم على الدولار.
وتعمل هذه الآلية كمركز لتبادل نقاط الائتمان، حيث يمكن للشركة الإيرانية في حال تجارتها مع نظيرتها الأوروبية، أن تستخدم تلك الائتمانات لسداد ثمن السلع المشتراة. ومن المتوقع أن تقتصر آلية دعم التبادل التجاري على السلع الأساسية، مثل الطعام والدواء والمعدات الطبية والتي تعتبر سلعا ضرورية لاستمرار الحياة في إيران، ومع ذلك، هناك إمكانية للتوسع في سلع أخرى في المستقبل.
ويأمل الثلاثي الأوروبي (فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة) المعروف باسم (E3)، الذي يقود الموقف الأوروبي فيما يتعلق بتقييد تداعيات العقوبات الأمريكية إنقاذ ما تبقى من خطة العمل الشاملة المشتركة، أو الصفقة النووية الإيرانية بعد انسحاب الولايات المتحدة منها في عام 2018؛ الأمر الذي سيكون له تداعيات على الاتفاق النووي الإيراني، والعلاقات الأوروبية الأمريكية. ومع أن هذا التأثير قد يبدو ضعيفًا في بدايته، إلا أنه يفتح الطريق لعواقب هائلة على المدى البعيد.
ومع ذلك، فإن اقتصار هذه الآلية على السلع الأساسية يجعل نطاقها محدودًا، ولا يعود بمستوى التجارة الأوروبية الإيرانية إلى ما كان عليه قبل فرض العقوبات، فما زالت الشركات الأوروبية تخشى التعرض لعقوبات مالية، وفقدان مصالحها في الأسواق الأمريكية وأسواق دول العالم الملتزمة بنظام العقوبات الأمريكية، ولعل هذا ما جعلها تقتصر على السلع الأساسية، والتي هي من حيث المبدأ لا تخضع لتوقيع العقوبات.
ويسعى الثلاثي الأوروبي لممارسة ضغوط تعبر عن رغبته في استعادة التبادلات التجارية مع إيران في المجالات المحورية كالصناعة والتمويل والطاقة. تقابل هذه الرغبة رغبة قوية من إيران في استعادة كل الخسارة المالية التي لحقت بها جراء العقوبات الأمريكية. ومع ذلك لم يستجب قطاع الأعمال الأوروبي لتلك الرغبات خشية العقوبات الأمريكية. وتبرر هذه الدول موقفها بأنها تدعم الاتفاق النووي بمحاولة تلبية مطالب إيران، حتى لا تعود إلى تخصيب اليورانيوم، وتظل ملتزمة بخطط العمل المشتركة الشاملة.
وتتضمن خطة العمل الشاملة المشتركة تنفيذ إيران القيود المفروضة على برنامجها النووي مدة 10 سنوات على الأقل، وموافقتها على التفتيشات الدولية لمراقبة تنفيذ الاتفاق النووي، وتخفيض أجهزة الطرد المركزي التي تستخدمها في تخصيب اليورانيوم من 19 ألف جهاز إلى 6104أجهزة. وفي مقابل ذلك، تُرفع العقوبات التي كانت فرضت عليها، ويجري تحفيزها بإنهاء عزلتها الاقتصادية من خلال إقامة روابط تجارية قوية مع الموقعين الآخرين الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والصين.
وترغب الدول الأوروبية في استمرار العمل بهذه الخطة، وألا تترك لإيران فرصة للتملص منها بدعوى العقوبات الأمريكية وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ولهذا فهي تمارس سياسة النفس الطويل إزاء تصرفات إيران المستفزة. وفيما لجأت إلى فرض عقوبات على إيران بسبب سلوكها الإرهابي في أوروبا فإن هذه العقوبات لم تتضمن إيقاف آلية التعامل التجاري، حيث جاءت هذه الآلية في وقت يتصاعد فيه الموقف الأوروبي تجاه طهران، بعد الاختبار الصاروخي طويل المدى الذي أثار مخاوف صانعي السياسة، بالإضافة إلى سلسلة الاغتيالات التي نفذتها في أوروبا؛ والتي أفسدت العلاقات بين الجانبين، وأحدثت على وجه الخصوص ضجة من الاستياء داخل الاتحاد الأوروبي، وخاصة في الدول التي تم الكشف بها عن شبكات إرهابية مدعومة من إيران مثل الدنمارك وفرنسا.
وردا على ذلك، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على إيران لأول مرة منذ التوقيع على الاتفاق النووي، حيث أضاف إيرانيين اثنين، وإدارة الأمن الداخلي التابعة لوزارة المخابرات الإيرانية إلى قائمة الإرهاب الخاصة بالاتحاد الأوروبي، ما صعّد التوتر في الأيام التي سبقت إعلان دول الاتحاد الأوروبي الثلاث عن الآلية. وعلى الرغم من هذه الفجوة المتنامية بين الجانبين؛ فمن غير المرجح أن تزعزع من استقرار الجهود للحفاظ على خطة العمل الشاملة المُشتركة في الوقت الحاضر.
ويبقى واضحًا، أنه إذا كان مجال التعامل في هذه الآلية يقتصر في الوقت الحالي على السلع الأساسية، فإن إيران من المرجح أنها ستربط المضي في تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة بعد انسحاب الولايات المتحدة منها؛ بالتوسع في التبادل التجاري خارج نطاق هذه السلع، وسيكون الخيار حين إذن إما التوقف التام عن تنفيذ الخطة وعودة الأمور إلى الوضع قبل الاتفاق النووي، وإما فتح التبادل التجاري، وفي هذه الحالة، لن يكون هذا الموقف خاصًا بالاتحاد الأوروبي فحسب، ولكنه سيشمل الدول الأطراف الأخرى في الاتفاق.
ويرى مراقبون أن الخطوة الأوروبية لديها القدرة على تحرير النظام الإيراني من الضغوط الشعبية المتوقعة نتيجة فرض العقوبات الأمريكية، وتضعف تأثير تلك العقوبات في اتجاه حمل النظام الإيراني على الكف عن السياسات التي كانت سببًا في لجوء الإدارة الأمريكية لهذا الأسلوب. وبمقتضى هذه الخطوة لن يكون النظام الإيراني في حاجة إلى دولارات حتى يشتري بها ما يحتاج إليه، كما تفتح هذه الخطوة مع طرق التهريب بابًا لتصدير النفط الإيراني، والأخطر من ذلك دلالاتها السياسية المتمثلة في ذلك الشرخ الذي حدث في الموقف الغربي، حيث أخذت أوروبا موقفًا مغايرًا للموقف الأمريكي، على الرغم من علاقات التحالف القائمة بين الجانبين. ويوسع هذا التباين من هوة الخلافات عبر الأطلسي بسبب الحرب التجارية والموقف المتباين من التوافق مع موسكو وتمويل حلف الناتو، ما يزيد من التراكمات التي تهدد النظام العالمي آحادي القطب القائم منذ نهاية الحرب الباردة، وتقف على رأسه الولايات المتحدة.
ومن المتوقع أن تقابل فكرة الدول الأوروبية رسميا إنشاء قناة تواصل تجارية خلفية مع إيران بنظرة خوف من داخل بعض أروقة صنع القرار في واشنطن، خاصة أن لدى الولايات المتحدة الكثير من المخاوف بشأن تلك الآلية، نظرًا إلى أن إطلاقها وشكل توسعها المستقبلي يقوضان بشكل أساسي أهداف وغايات نظام العقوبات الشامل الأمريكي.
وكان ترامب واضحًا في نواياه بمعاقبة أي دول أو جماعات، سواء أكانت حليفة لواشنطن مثل الهند أو كوريا الجنوبية، أو خصوما لها مثل الصين، تسعى إلى مواصلة علاقاتها التجارية مع إيران، بقوله: إن «أي شخص سيتعامل مع إيران لن يمارس أي علاقات تجارية مع الولايات المتحدة»، خلال إحدى تغريداته، في أغسطس الماضي، عندما بدأ سريان العقوبات لأول مرة، الأمر الذي يوحي بأن الثلاثي الأوروبي لن يتم إعفاؤه من هذا التهديد بإقامته آلية خاصة للمعاملات التجارية مع إيران لتجاوز العقوبات الأمريكية.
وحتى الآن، أظهرت أمريكا بوضوح أنها تأخذ العقوبات الاقتصادية التي تفرضها على إيران على محمل الجد، وترغب في إقران سياستها المناهضة لطهران بالفعل وليس القول فقط، بما في ذلك فرض عقوبات على كل الأطراف غير الملتزمة بنظام العقوبات الأمريكي. وعليه، أكد مسؤولون أمريكيون أن الدول إما أن تختار بين القيام بأعمال تجارية مع إيران أو الولايات المتحدة، ولكن ليس كليهما، ما يوحي بأن الدول الأوروبية الثلاثة أو حتى الاتحاد الأوروبي ككل قد يواجه إجراءات انتقامية عقابية من جانب الولايات المتحدة، والتي من المحتمل أن تتسبب في إلحاق الضرر بالعلاقات الأوروبية الأمريكية، في الوقت الذي يبلغ حجم التبادل التجاري بينهما (30% من حجم التجارة العالمية للسلع، و40% من حجم التجارة العالمية في الخدمات).
على العموم، تضع التداعيات بعيدة المدى للتعاون الاقتصادي الأوروبي الإيراني، وتأثر العلاقات الاقتصادية بين عمالقة الاقتصاد العالمي؛ العلاقات الأوروبية الأمريكية في مهب الريح، خاصة مع توقع إخفاق هذا التعاون فيما سعى إليه، وهو إنقاذ خطة العمل الشاملة المشتركة، في ظل استمرار إيران في ممارسة سياساتها الداعمة للإرهاب. وعلى أي حال، لن تختار أوروبا إيران بديلاً عن الولايات المتحدة، لكنّ الشرخ الذي أحدثته هذه الآلية في الموقف الغربي يظل في حاجة إلى ترميم لحماية النظام العالمي القائم منذ نهاية الحرب الباردة، والتوافق بين الدول الأعضاء في الاتفاق النووي على النهج الذي يحمل إيران على الالتزام بالاتفاق النووي، وعدم تحايلها عليه والتوقف عن دعم وممارسة الإرهاب ووقف تدخلها في الشؤون الداخلية للدول. ولعل الأمم المتحدة هي الساحة الأفضل للجميع لتحقيق هذا التوافق.