top of page
19/1/2019

خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتداعياته على مجلس التعاون الخليجي

من المعلوم أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية كان قد فتح المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي منذ نحو 31 عاما، لعقد اتفاقية للتجارة الحرة بين الكتلتين، وكانت هذه المفاوضات قد نجحت من خلال اتفاقية التعاون بين الاتحاد الأوروبي والمجلس في 1988, في وضع إطار للتعاون السياسي والاقتصادي بين الجانبين، بهدف تدعيم استقرار منطقة الخليج وتحسين العلاقات التجارية بينهما، واستمرت المفاوضات لعقد اتفاقية التجارة الحرة بين نشاط وتعليق وتوقف.
وفي زيارتها للدول الأعضاء في المجلس، العام قبل الماضي، أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على ضرورة أن يتمكن الجانبان من إبرام اتفاقية التجارة الحرة، للأهمية القصوى لهذه الاتفاقية لكلا الجانبين، في ظل اتجاهات السياسة الحمائية للرئيس الأمريكي ترامب، والحاجة المتبادلة لكلاهما في فتح سوقه للآخر، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى التقدم بعرض جديد للاتفاق، وخاصة أن سوق مجلس التعاون الخليجي يقف على قمة شركاء الاتحاد الأوروبي في التجارة، حيث يبلغ حجم التجارة بين الجانبين نحو 140 مليار يورو، معظمها صادرات أوروبية (نحو 101 مليار يورو) بخلاف تجارة الخدمات التي تناهز 50 مليار يورو، معظمها أيضًا صادرات أوروبية، إلى هذا فإن متابعة التطور الحادث في الاتحاد الأوروبي، والمتمثل في خروج بريطانيا منه وهي أحد أهم شركاء دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية اقتصاديًا وسياسيًا، يمثل أهمية كبيرة لمجلس التعاون، لجهة استمرار التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة، والذي يحتمل أن يكون في ضوء هذا التطور على مسارين، أحدهما أوروبي والآخر بريطاني.
ومن المعلوم أن بريطانيا كانت قد انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في مسماه القديم (السوق الأوروبية المشتركة) في عام 1973, وفي يونيو 2016 في الاستفتاء الذي جرى على عضوية بريطانيا في هذا الاتحاد، صوت 52% لصالح مغادرة هذا الاتحاد بعد عضوية استمرت 44 عامًا، الأمر الذي نتج عنه بدء العملية المعقدة لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) التي تشتمل على إجراءات سياسية واقتصادية في المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي (27 دولة)، وفي 29 مارس 2017 أرسلت رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي رسالة إلى رئيس المجلس الأوروبي، بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، التي تمثل قانون الاتحاد الأوروبي، واستمرت المفاوضات بين الحكومة البريطانية والمفوضية الأوروبية نحو 17 شهرًا، ليعلن قادة الدول الأوروبية في نوفمبر الماضي، خلال القمة الأوروبية، مصادقة الدول الأعضاء على اتفاق خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وخارطة طريق تشمل العلاقة بين الطرفين في مرحلة ما بعد الخروج.
يدخل هذا القرار حيز التنفيذ في 29 مارس 2019, إلا أن البرلمان البريطاني رفض هذا الاتفاق حين عرضته تريزا ماي يوم 15 يناير 2019 بأغلبية 432 صوتا في مقابل 202 صوت، بل إن رئيسة الوزراء تعرضت أكثر من مرة لطرح الثقة والإطاحة بها، وكانت دراسات صندوق النقد الدولي حول الخسائر المحتملة للاقتصاد البريطاني جراء خروجه من الاتحاد الأوروبي، قد توقعت أن هذه الخسائر تعادل 8% من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني، كما توقعت الحكومة البريطانية أن يبلغ حجم هذه الخسارة نحو 150 مليار جنيه استرليني.
وهذا الوضع المقلق في منطقة بالغة الأهمية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، لا يقف مصدر القلق فيه فقط عند حد حجم خسارة الاقتصاد البريطاني، ولكن بسبب الغموض الذي صار ينتاب العلاقات المختلفة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وتأثير حالة عدم اليقين على اتجاهات الاستثمار، وأكثر من ذلك تأثيره على أسعار 3 عملات رئيسية هي اليورو والاسترليني والدولار، وبالفعل فإن اقتصاد منطقة اليورو (تضم 19 دولة أعضاء في الاتحاد الأوروبي) قد أصبح يعاني حالة من التباطؤ تتجه إلى الركود، بعد 20 عامًا مرت على إطلاق اليورو، وأصبح الخوف يتزايد من ارتفاع حجم القروض السيئة، الأمر الذي نبه إليه محافظ البنك المركزي الأوروبي.
ومع رفض البرلمان البريطاني خطة الخروج، فهل تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، إن هذا الخيار قد صار مستبعدًا بسبب تداعياته على الاقتصاد البريطاني والجنيه الاسترليني ومركز لندن كعاصمة مالية لأوروبا، ومع استعداد الاتحاد الأوروبي لتأجيل موعد خروج بريطانيا من الاتحاد المحدد له 29 مارس 2019, إلا أنه رفض إعادة التفاوض حول خطة الانسحاب التي رفضها البرلمان البريطاني، ليصبح الموقف مفتوحًا أمام ثلاث سيناريوهات، وهي إما العودة إلى البرلمان بخطة بديلة، وإما إجراء استفتاء ثان بشأن بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من عدمه، وإما تأجيل الانسحاب أو إلغائه.
إن هناك أزمة إذن قائمة في علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، لم ينجح تصويت مجلس العموم البريطاني، ولم تنجح الحكومة البريطانية أو الاتحاد الأوروبي في حلها، ومع الأهمية الكبيرة لمتابعة هذه الأزمة خليجيًا، فقد كان هناك تسابق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على الاهتمام بتقوية العلاقات الاقتصادية مع مجلس التعاون الخليجي، فقد سبق ما أبدته المستشارة الألمانية بعودة نشاط مباحثات التجارة الحرة الأوروبية الخليجية، لدى زيارتها لدول مجلس التعاون في 2017, زيارة تريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية المنامة لحضور القمة الخليجية 37 في ديسمبر 2016 في أول زيارة لها لمنطقة الخليج بعد توليها هذا المنصب.
وقد أكدت ماي اهتمام بريطانيا ودورها الفاعل في المنطقة والذي مازال قويًا، ولم يتأثر بالتصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأن انسحابها من الاتحاد الأوروبي لا يعني انسحابها من العالم وخصوصًا منطقة الخليج التي ستعزز علاقاتها معها كحليف وشريك، كما أكدت في كلماتها أمام القمة الخليجية أن بلادها ستعقد علاقة شراكة استراتيجية مع دول المجلس لمواجهة التهديدات الإيرانية، وأنها ستعزز التعاون الدفاعي مع هذه الدول لمواجهة التهديدات المشتركة، وأنها تريد استثمار أكثر من 3 مليارات جنيه استرليني في اتفاق دفاعي في منطقة الخليج على مدى السنوات العشر المقبلة.
ومنذ الإعلان عن الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين في القمة الخليجية 37 فقد جرى الاتفاق بينهما على تعزيز العلاقات في مجالات التجارة والاستثمار والأمن السبراني وحماية البيئة البحرية، وفيما كان حجم التجارة بين دول المجلس وبريطانيا قد بلغ نحو 30 مليار جنيه استرليني، وهو يزيد عن الصادرات البريطانية إلى الصين، فقد اتجهت بريطانيا إلى مفاوضات بشأن عقد اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، تعوض الخسارة الناجمة عن انسحابها من الاتحاد الأوروبي، إلا أن مباحثات عقد هذه الاتفاقية قد تعثرت بسبب الأزمة التي وقعت في مجلس التعاون بين قطر من ناحية والمملكة العربية السعودية والإمارات ومملكة البحرين من ناحية أخرى، وهو ما أرجأ عقد القمة الخليجية البريطانية التي كانت مقررة في لندن في 2017.
وإذا كانت بريطانيا هي الدولة الأوروبية الأكثر دراية بمنطقة الخليج واهتماماتها وطريقة التعامل معها بحكم العلاقة التاريخية معها، وبالتالي تستطيع تجاوز العقبات، التي وقفت إلى اللحظة أمام إبرام اتفاقية التجارة الحرة الخليجية الأوروبية، وعقد اتفاق تجارة حرة بريطاني خليجي، إلا أن هذا الاتفاق المرتقب لن يكون بديلاً لاتفاقية التجارة الحرة الخليجية الأوروبية، سواء لجهة حجم السوق والاستثمارات المتوقعة، أو لجهة تنويع البدائل، إلا أنها ستكون عاملاً جوهريًا في تذليل العقبات التي تقف في وجه إبرام اتفاقية التجارة الحرة الأوروبية الخليجية.
وإذ تعذر إبرام اتفاقية تجارة حرة بريطانية خليجية حاليًا بسبب الأزمة الخليجية، فقد حرصت بريطانيا على ضرورة حل هذه الأزمة الخليجية في أقرب وقت ممكن، ولهذا دعت ماي في بيان لها يوم 16 يونيو 2017 إلى ضرورة استعادة وحدة مجلس التعاون في أقرب وقت ممكن، فهي تريد أن تتعامل مع المجلس كسوق واحدة يتمتع بمزايا الحجم الكبير، وهو نفس المنطق الأوروبي في مفاوضات التجارة الحرة.
ومع أن بريطانيا لا يمكنها أن تنجز اتفاقا للتجارة الحرة مع مجلس التعاون طالما لم تخرج رسميًا من الاتحاد، وطالما مازالت عضوًا فيه إلا أنها شرعت كما شرعت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الأعمال التحضيرية لإبرام هذا الاتفاق، الذي سيكون أول اتفاق تجارة حرة لها بعد خروجها من الاتحاد، إذ تبحث عن تعزيز علاقاتها التجارية مع هذه المنطقة الغنية الواعدة بفرص الاستثمار الكبيرة، كي تعوض نحو نصف تجارتها الخارجية، وهو المتجه إلى الاتحاد الأوروبي، وسيصبح في إمكان دول المجلس من خلال هذا الحرص البريطاني تحقيق الاستجابة لكثير من المطالب التي كانت في المحادثات الأوروبية الخليجية، وفي مقدمتها أفضلية الاستثمار الناقل للتكنولوجيا، الذي يمكن الاقتصادات الخليجية من تنويع مصادر دخلها، اعتمادًا على تعميق عملية التصنيع لديها، وحل إشكالية فرض رسوم تصدير على صادراتها من البتروكيماويات التي تحتل المرتبة الثانية في صادرات دول المجلس بعد النفط.
إلى هذا فإن التطور الحادث في الاتحاد الأوروبي يحتل أهمية كبيرة لدول مجلس التعاون، حيث يعتبر هذا الاتحاد في مقدمة شركاء المجلس اقتصاديًا وسياسيًا، فإن تم تعليق اتفاق بريكست وتأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد، تعود المباحثات بشأن اتفاق التجارة الحرة الخليجية الأوروبية إلى نشاطها كما دعت إلى ذلك أنجيلا ميركل لدى زياراتها منطقة الخليج في 2017, وإن خرجت بريطانيا تنشط مفاوضات عقد اتفاق تجارة حرة بريطانية خليجية بالتوازي مع مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة الخليجية الأوروبية، ونجاح المفاوضات في تذليل العقبات في أحدهما سيكون عاملاً دافعًا لتذليل مثلها في الآخر، وهو ما يسهل في النهاية إبرام الاتفاقيتين، ولكن الأمر يظل معلقًا بحل الأزمة في البيت الخليجي نفسه واستعادة الوئام والوحدة بين أعضائه.

 

{ انتهى  }
bottom of page