top of page
23/11/2019

إلى متى يستطيع النظام الإيراني الصمود أمام الاحتجاجات المتوالية؟

موجة جديدة من الاحتجاجات، في عقد الاحتجاجات المعاصر، والذي أقل ما يوصف به أنه عقد الغضب الشعبي والتدخل الخارجي؛ والذي بزغ مولده مع ثورات ما يطلق عليها «الربيع العربي» في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن في 2011. والموجة الجديدة تتخذ من العراق ولبنان مسرحا لها، وتعد الأراضي الإيرانية باكورة المسارح التي تُؤدى عليها عروض فلكلور السخط الشعبي والانفجار الجماهيري؛ فقد انقلب السحر على الساحر؛ إذ ضربت الاحتجاجات دولة المرشد؛ والتي موَّلت وحركت الأحداث- إلى جانب قطر وتركيا- حركات التظاهر في الموجة الأولى، والتي أكلت الأخضر واليابس، بالوكالة مع داعمي ومتبني مخططات الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة.
فقد خرج آلاف المتظاهرين في إيران مساء الجمعة في ثورة عنيفة عقب ساعات من الإعلان عن تعديلات حكومية لأسعار الوقود، والذي شهد ارتفاعا في أسعار البنزين بنسبة كبيرة ما أشعل الشارع الإيراني، فقد باتت قدرتهم على شراء لوازمهم باهظة الثمن وأضعاف أضعاف ما كانت عليه قبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي؛ ناهيك عن ارتفاع التضخم، وزيادة البطالة، وانخفاض الريال، واستشراء الفساد، والضرر الذي ألحقته سياسة«الضغوط القصوى» التي تنتهجها واشنطن تجاه الاقتصاد الإيراني. 
وتأتي هذه الاحتجاجات المدفوعة بالضغوط المعيشية قبل أشهر من انتخابات برلمانية مقررة في فبراير2020. وفي وقت تمر فيه إيران بانكماش اقتصادي خطير، نتيجة فرض الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية مشددة عليها، ووفقا للمعطيات السياسية التي خلفتها احتجاجات العراق ولبنان كان لا بد من انتقال هذا الحراك إلى الدولة الأم؛ ذات القبضة الحديدية، والتي تصنفها الإدارة الأمريكية راعية للإرهاب، إذ تغلغلت داخل الدولتين العراقية واللبنانية.
ويرى المحللون أن الاحتجاجات العراقية واللبنانية جاءتا لتدهور المناخ الاقتصادي في البلدين؛ إذ تحول غضب المتظاهرين لفرض السيطرة وتنفيذ مطالب الشعب السياسية، والمطالبة العاجلة بعمل إصلاح شامل للنظام السياسي الذي يستخدم الطائفية، ويعتمد على المحسوبية، والتي أدت إلى تشجيع النزاع السياسي ما أدى إلى سياسات مذبذبة، نتيجة لهذه المظالم الاجتماعية والاقتصادية، والناتجة عن التغلغل الإيراني والسيطرة على السياسيين والأحزاب والمليشيات لخدمة مصالحها الآيديولوجية والاستراتيجية.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشتعل فيها فتيل المظاهرات في إيران؛ فقد احتج الإيرانيون على إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد في 2009 فيما عُرف بـ«الثورة الخضراء»، كما شهدت تظاهرات نهاية 2017 نتيجة ارتفاع معدل البطالة وزيادة الأسعار، والمظاهرات الإيرانية مهدت لها وسبقتها المظاهرات العراقية واللبنانية، نظرًا إلى الارتباط الطائفي التاريخي والحديث بين الدول الثلاث ولهذا خرج المحتجون في لبنان والعراق رفضا للسيطرة الإيرانية على المفاصل السياسية في كلتا الدولتين ووضح ذلك من خلال الاحتجاج الشعبي، فالاحتجاجات لم تبدأ في البداية ضد النفوذ الإيراني ولكن تعبيرات الغضب الجريئة ضد طهران أصبحت سمة أساسية للانتفاضات، وتمثل ذلك في اقتحام المحتجين للسفارة الإيرانية في مدينة كربلاء ذات الأغلبية الشيعية، وذلك يوم الأحد 3 نوفمبر، وفي مدينة النجف العراقية، فقد قام المتظاهرون بتغيير اسم طريق الإمام الخميني إلى «شهداء ثورة أكتوبر»، تكريما للذين قُتلوا أثناء الاحتجاجات على يد الميلشيات الإيرانية، كما أحرق المتظاهرون ملصقات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية في جميع أنحاء البلاد، وفي لبنان وجه الغضب ضد أهم وكيل لإيران «حزب الله» من خلال الشعارات والهتافات الاحتقارية.
وكان العالم- يوم الجمعة الموافق 15 نوفمبر- مع موعد جديد لميلاد ثورة جديدة في إيران؛ إذ اندلعت الاحتجاجات، وقام المحتجون بحرق المركبات وإطارات السيارات، ورص الحواجز على الطرق، وهتاف شعارات معادية للنظام، وواجهوا قوات الأمن بقوة شديدة في طهران وغيرها من المدن الأخرى كأصفهان وشيراز وتبريز، وألقى الأمن القبض على أكثر من 1000 شخص، وبحسب ما أعلنت منظمة العفو الدولية، تسببت الاحتجاجات في وفاة 106. ولجأت الحكومة إلى قطع اتصال الإنترنت في جميع أنحاء الدولة في محاولة لنزع فتيل الأزمة.
ومع شرارة الاحتجاجات المندلعة هذه المرة بسبب قرار حكومة الرئيس روحاني بتخفيض الدعم على الوقود تماشيا مع مبادرة اقترحها صندوق النقد الدولي، لم تجد الحكومة ما تتعلل به لكبح هذه الاحتجاجات إلا بالقول: «إن قرار رفع البنزين سوف يوفر حوالي 2.5 مليار دولار سنويا للحصول على إعانات لـ18 مليون أسرة فقيرة، ولحوالي 60 مليون إيراني من محدودي الدخل».
وقوبل هذا الإجراء الحكومي برد فعل عنيف، فوفقا للمراسل الدولي لصحيفة الإندبندنت «بورزو دراغي» أنه: «بالرغم من الأسعار الجديدة التي تعتبر أقل من أسعار السوق العالمية للوقود، فقد اعتقد الإيرانيون أن الوقود الرخيص هو حق بالفطرة »، وأضاف «أن الأهم من ذلك، أنه في حين أن هذا القرار يُوصى به منذ سنوات من الاقتصاديين وعلماء البيئة والبنك الدولي، إلا أنها جاءت في وقت يعاني فيه الإيرانيون ماليا»، حيث تقلص إجمالي الناتج المحلي 9% هذا العام، وتسبب في زيادة البطالة وانخفاض الأجور، وزاد التضخم بنسبة 40% وارتفعت أسعار السلع بشكل مطرد.
وتأتي هذه المظاهرات لتضيف أعباء أخرى جديدة على كاهل الحكومة الإيرانية إلى جانب مشكلات الملف النووي والعقوبات الأمريكية، وفي هذا السياق ذُكر في تقرير لمجلة «بولتيكو» الأمريكية أنه «قام المحتجون بفرض ضغوط جديدة على الحكومة الإيرانية؛ إذ إنها تهدف إلى التغلب على العقوبات الأمريكية التي تعيق الاقتصاد منذ قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، ويمكن للحكومة الإيرانية أن تنجح في أن تتخفى خلف العقوبات الأمريكية كحجة على أدائها الاقتصادي السيئ، إذ يوجد غضب شعبي موجه ضد أمريكا وحلفائها»، ولكن ثمة استياء شعبي منذ اندلاع الاحتجاجات بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية أواخر عام 2017. فقد استنكر المتظاهرون أداء الحكومة والدولة بشكل عام.
ويُلقى باللوم على الرئيس روحاني فيما آلت إليه الأمور، نظرًا إلى اتخاذه القرار الصائب في الوقت الخطأ، ويسلط الخبراء الضوء على ذلك، بالقول إنه: «قد تم توجيه معظم الهجوم إلى روحاني ذي التوجه المعتدل؛ الذي تأثرت سمعته بتفكيك الاتفاق النووي لعام 2015. فقد كان الاتفاق بمثابة الإنجاز المميز بالنسبة إليه»؛ كما أنه دافع مؤخرًا عن قرار الحكومة بزيادة أسعار الوقود. ويجد إلقاء اللوم على روحاني رواجا واسعا من قبل الكثيرين، لوضعه خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والتي وعد فيها باستثمارات أجنبية ضخمة، ووضع حد للعزلة السياسية والاقتصادية الإيرانية، إلا أن ترامب انسحب من الخطة وفرض عقوبات مقيدة للاقتصاد الإيراني.
ويخالج المتشددين الآيديولوجيين في المجتمع الإيراني نفس الشعور تجاه رئيسهم روحاني، فهم يعتقدون أنه قوض مبادئ جمهورية الملالي بإبرام صفقة مع الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، وهذا الاتجاه يشعل الاحتجاجات الحالية لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بهم، فالعناصر المتشددة داخل النظام تشجع أو تسمح للاحتجاجات بإضعاف الفصيل المعتدل نسبيا المتمثل في السيد روحاني قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2021. 
ويوجه التيار المحافظ المحتجين إلى صب جم غضبهم على روحاني، ويفعلون ذلك على حساب الدولة التي يعلنون ولاءهم لها وانتماءهم إليها، وكما هو الحال في 2017 و2018 وأوائل هذا العام، تستمر المظاهرات في التعبير عن حالة عدم الرضا عن الحكومة، وعن المرشد الأعلى، وهذا أثار قلق الدولة بشكل واضح؛ إذ سارع خامنئي في التحرك ضد الاحتجاجات ملقيا باللوم على من أسماهم «بلطجية» الخارج، محملا إياهم المسؤولية عن أعمال العنف، إذ قال: «انعدام الأمن هو أكبر تحد بالنسبة إلى أي بلد وإلى أي مجتمع،،، لقد شجعت جميع مراكز البلطجة في العالم ضدنا هذه الأفعال، وأقول هنا، لا ينبغي لأحد أن يساعد هؤلاء الأشخاص»، وألقى خامنئي باللوم على مناصري عائلة شاه إيران؛ التي أزيحت من السلطة قبل 40 عاما، وأفراد منظمة «مجاهدي خلق» المعارضة، معتبرا إياهم محرضين على الاحتجاجات عبر الإنترنت.
وهذا المسلك ينبع من تخوف المؤسسة الإيرانية في أن تتحول البلاد لتكون على طريق العراق ولبنان، اللذين تتمتع بنفوذ كبير فيهما، وبسببها يعانيان من عدم الاستقرار، بسبب الاحتجاجات المستمرة التي تسعى إلى إسقاط حكومتيهما، وهذا ما وضح من تغريدة كتبها مستشار الرئيس الإيراني؛ حسام الدين آشنا، قال فيها: «لقد ارتكب الانتهازيون في الداخل ومن الخارج خطأ استراتيجيا آخر، إيران ليست العراق أو لبنان»؛ وهذا التصريح يدلل مدى قلق طهران من هذه الحركات؛ خشية تشجيعها الانتفاضات في إيران.
ورغم شعور الدولة الإيرانية بجدية التهديدات والتخوفات من هذه الاحتجاجات، إلا أنه من غير المرجح أن يكون لها التأثير المرغوب في تشجيع تغيير الحكومة أو النظام، وإن كان يخالجها الخوف؛ لأن واشنطن أعربت عن دعمها للاحتجاجات، فقد قال وزير الخارجية الأمريكي بومبيو في إحدى التغريدات: «كما قلت لشعب إيران قبل عام ونصف تقريبًا: الولايات المتحدة معكم». 
على الجانب الآخر تفاءل بعض المحللين إزاء هذه الاحتجاجات الدائرة، ويرى أهميتها على عكس سابقيها؛ إذ قال «روزبه ميربراهيمي»- كبير الباحثين في جامعة نيويورك-: «يواجه النظام أزمة خطيرة، وما لم يقدم بعض التنازلات لتخفيف الضغوط، فسيستمر الغضب والعنف».
ووفق المسار الواقعي يظل تغيير النظام أو الحكومة هو نتيجة غير مؤكدة؛ فمن المرجح أن تتبع الاحتجاجات نفس المسار الذي اتبعته الحركات الاحتجاجية الأخرى التي شهدها تاريخ إيران الحديث، وذلك من خلال التلاشي والاختفاء ببطء على مدار أسابيع وشهور، ويؤكد ذلك هو كيفية تعاطي الحكومة مع الأزمة؛ فقد قطعت خدمة الإنترنت في البلاد، حيث بات الأمر على عكس الماضي، عندما كانت الحكومة تستطيع السيطرة على الأخبار والحراك الشعبي ومعالجته والتصدي لها بسهولة، فإن الناشطين الحقوقيين والخطوات التي تتخذها الجمهورية الإسلامية اليوم لقمعهم يمكن تضخيمها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبالتالي لا يمكن إجهاضها والقضاء عليها. 
وعامل القضاء علي فاعلية النشاط الحقوقي يعد رافدا رئيسيا لهذا الاتجاه؛ فمع قطع النظام لخدمة الإنترنت في الأيام الأخيرة قل التظاهر وانخفض الاحتجاج، وحول فاعلية هذه الأدوات يقول مهدي نجاد- مدير شركة «نت فريدوم بايونيرز»، وهي مؤسسة غير ربحية تعمل في مجال الأمن السيبراني-: «إن قطع خدمة الإنترنت استطاعت من خلاله الحكومة الإيرانية عزل المحتجين عن بعضهم بعضا وعن بقية دول العالم أجمع، ويمكن أن تستمر عملية القمع بحق المظاهرات في ظل عدم وجود أي تضامن أو مساءلة أو انتقاد للنظام على أرض الواقع»، إذن فبدون القدرات اللوجيستية التي توفرها خدمة الإنترنت للمحتجين، من المرجح أن تتلاشى الاحتجاجات قريبًا، وبخاصة مع استمرار قمع النظام لها.
وإجمالا يمكن القول: إن الاحتجاجات-هذه المرة- لن تشكل تهديدًا كبيرًا للنظام الملالي على الرغم من كون حكومة روحاني، والنظام الحاكم عمومًا، هما محور الغضب العام وسط الاحتجاجات المستمرة، ومن المرجح أن تكتيكاتهم القمعية والتقييدية ستعزلهم عن أي تحد حقيقي، وبدلا من ذلك، ستتبع الاحتجاجات نفس المسار الذي اتبعته نظيراتها السابقة؛ إذ ستظل مستعرة لأسابيع أو أشهر قبل أن تتلاشى تمامًا في النهاية، ومع ذلك، فإن طبيعة الاحتجاجات الراهنة تشير إلى أنها لن تدوم طويلا؛ لأن الظروف الاقتصادية التي أشعلتها باتت تظهر القليل من علامات التراجع، وفي النهاية، قد تسنح الفرصة للمحتجين للتحريض على تكرار ثورة أشبه بالتي كانت عام 1979. والتي سيتم فيها استبدال النظام بكيان سياسي جديد، وربما يكون كيانًا خاليًا من المبادئ الإرهابية والأصولية التي توجه النظام الإيراني الحالي.

{ انتهى  }
bottom of page