top of page
7/12/2019

السياسات الروسية في الشرق الأوسط في الميزان

يَعتبر عدد كبير من المحللين عودة روسيا إلى الشرق الأوسط بعد غياب طويل خلال فترة ما بعد الحرب الباردة أهم ظاهرة في القرن الحادي والعشرين، إذ تزايد دورها في المنطقة بشكل ملحوظ، بالتوازي مع تراجع الدور الغربي. ولا يقتصر هذا على التعاون العسكري مع كثير من دول المنطقة على غرار سوريا ومصر وليبيا وإيران وتركيا، بل يمتد إلى تعاون ثقافي وقنوات تواصل جديدة داخل هذه الدول والمجتمعات، وهو ما يؤكده «أندريه كورتونوف» من «المجلس الروسي للشؤون الدولية»، من أن «موسكو تمكنت بفضل الاستثمارات القليلة في الموارد البشرية والثروات من تحويل نفسها من دولة مهمشة إلى قوة عظمى ذات مكانة دولية تؤثر على معظم دول المنطقة».
وفي هذا الإطار، صدر تقرير عن مركز «كارنيجي للسلام الدولي»، أعده «يوجين رومر»، بعنوان «روسيا في الشرق الأوسط.. متعددة المهارات وفاقدة الفاعلية»؛ سعى من خلاله للبحث عن سبب وكيفية ترسيخ وتوسيع روسيا لنفوذها في الشرق الأوسط كوسيلة لتحقيق مصالحها الخاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة والحدود الممكنة لطموحاتها.
وترجع العوامل الدافعة لعودة روسيا للشرق الأوسط إلى عوامل داخلية وخارجية. وتتمثل العوامل الداخلية في الاعتبارات الاقتصادية، إذ يَعتبر الرئيس «فلاديمير بوتين» أن الشرق الأوسط مصدر للاستثمار غير المُستغل، وفرص التجارة للشركات الروسية؛ بسبب تدهور الأوضاع الداخلية، وتقلبات سوق النفط، وضعف الروبل وقلة ثقة المستثمرين، فضلا عن الاعتبارات الأمنية، فقد بدأت روسيا تدرك أن الشرق الأوسط هو نقطة الانطلاق لتعزيز أمنها القومي، وقد سهلت الحروب الأهلية في العراق وسوريا انتشار الجماعات الإرهابية التي جندت الجهاديين الروس لتنفيذ هجمات إرهابية داخل حدودها، لذا فقد بذلت روسيا جهودا عسكرية ودبلوماسية في المنطقة لمحاولة القضاء على هذه الجماعات.
أما العوامل الخارجية فتعود بالأساس إلى ميول «بوتين» التوسعية، والتي تعزز من الدعم المحلي له، فهو يمارس ما يُعرِّفه «رومر» بأنه «سياسة خارجية قوية»، وهو ما جعل روسيا لاعبا دوليا مهما مرة أخرى بعد حالة الضعف عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وتعد الممارسة الأولى لنفوذها هي ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014.
ولتأسيس سياسة نشطة في الشرق الأوسط؛ استخدمت روسيا نهجا انتهازيا لإعادة تأكيد وجودها في المنطقة؛ إذ استغلت نقاط الضعف مثل «الحرب الأهلية السورية، والتحولات الهيكلية، وتراجع الهيمنة الأمريكية» بشكل ملحوظ من أجل بناء العلاقات وتأمين مصالحها، فضلا عن انتهاج سياسة جديدة تقوم على محدّدات أساسية تجاه أزمات المنطقة، تتّسم بالمرونة والقدرة على المناورة، وقراءة مواضع القوة التي يجب التعامل معها، بما يخدم في النهاية استراتيجيتها التي تستند على إعادة مناطق نفوذها السابقة، لما لديها من خبرة عمل ودراية بها.
ومنذ عام 2015 بدا النفوذ الروسي جليّا مع توغلها في الحرب الأهلية السورية لدعم الرئيس بشار الأسد. وحافظ البلدان على علاقات ودية طويلة حتى في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، والتي تتضمن «المنشأة البحرية في طرطوس، ومبيعات الأسلحة، وإعفاء الديون من الحقبة السوفيتية». وتعد دعوة سوريا لروسيا لمساعدتها بمثابة شرعية لقرار الأخيرة نشر قواتها الجوية والخاصة ومقاوليها العسكريين في البلاد، الأمر الذي سمح لها بممارسة نفوذها ليس فقط في سوريا، بل في جميع أنحاء المنطقة من خلال استخدام قواتها الصلبة التي أظهرت نواياها في الحفاظ على وجود إقليمي. 
ومن خلال موقعه البارز في سوريا تمكن «بوتين» من تنفيذ برنامج سريع للتواصل الدبلوماسي في الشرق الأوسط يمكن من خلاله تحقيق مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية، وذلك بعيدا عن أي مشروع أيديولوجي، وخاصة أن النهج الحاكم لسياسته في المنطقة هو «براجماتي» بالأساس. وفي ذلك تقول «آنا بورشفسكايا» من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» إنه «على عكس الاتحاد السوفيتي، فإن نظام بوتين لم يكن مثقلا بالأيديولوجية، بل يعمل بدلا من ذلك على بناء والحفاظ على العلاقات مع كل ممثل رئيسي في المنطقة تقريبا، وهو ما جعله يستعيد نفوذه السياسي والدبلوماسي والاقتصادي».
وبصفة خاصة، استطاعت روسيا تحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة من خلال توسيع علاقاتها مع شبكة من الدول غير المتوافقة مع بعضها البعض، كإيران وإسرائيل وتركيا من خلال تدعيم العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية معها، كما نقل بوتين هذا الإطار إلى شمال إفريقيا، حيث مارس نفوذا في الحرب الأهلية الليبية من خلال دعم روسيا للجنرال خليفة حفتر قائد فصيل الجيش الوطني الليبي، وقوّى العلاقات الروسية الجزائرية التي عانت تراجعا في السنوات الأخيرة، وعزز علاقاته مع مصر.
أما التواصل الروسي في الخليج فقد اتخذ شكلاً مختلفًا، بالتركيز على المصالح الاقتصادية، بدلاً من المصالح الاستراتيجية. وتتعلق أولوياتها في تلك الدول بصادرات الطاقة وسوق النفط؛ بحيث سعت من وراء علاقاتها مع السعودية من خلال «أوبك+» -والتي تضم دولا غير أعضاء في منظمة «أوبك»- إلى الاتفاق على مراقبة الأسعار العالمية للنفط والتحكم فيها بما يتجاوز إطار أوبك، بينما قامت علاقاتها على أساس الاستثمار والتجارة مع كل من البحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر، وقد تعزز هذا من خلال الزيارات الدبلوماسية المتبادلة بين الجانبين الخليجي والروسي.
ويرى «رومر» أن اغتنام روسيا للفرصة لم يحدث من فراغ، ولكن تم تحقيق ذلك من خلال التحولات الهيكلية المستمرة في المنطقة، والأهم من ذلك كله استمرار تراجع الدور الأمريكي فيها، سواء في عهد الرئيس السابق «باراك أوباما»، أو الحالي «دونالد ترامب»، بعدما حولت واشنطن ببطء انتباهها بعيدًا عن دورها كقوة أمنية وسياسية في الشرق الأوسط، ولم يشمل ذلك انسحابها فقط من الحرب الأهلية السورية، بل أيضا من خلال تقليص التزاماتها تجاه حلفائها، مما أدى إلى سعي دول المنطقة مثل المملكة العربية السعودية ومصر إلى استبدال الضمانات الأمنية والاقتصادية الأمريكية الصغيرة وغير المؤكدة بشكل متزايد بقوة خارجية أخرى؛ وهو ما تؤكده «أنجيلا ستنت» من «معهد بروكينجز»، من أن «بوتين استفاد من ازدواجية الولايات المتحدة بشأن دورها المستقبلي في المنطقة لإعادة توطيد نفوذ روسيا هناك». وفي هذا الصدد حذرت مجلة «ذي ناشونال إنترست» من تنامي النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، قائلة: إن «هذا النفوذ الجديد بدأ يتعاظم، وخاصة في ظل تضاؤل النفوذ الأمريكي وتراجعه، مما ترك فراغا في المنطقة وعلى المسرح الدولي وهيأ الظروف لظهور الرئيس بوتين بوصفه لاعبا رئيسيا في الأمن الإقليمي».
وعلى الرغم من ذلك فإن موسكو تدرك عدم قدرتها على ملء الفراغ الذي خلفته واشنطن اقتصاديًا أو سياسيًا في المنطقة. يؤكد «نيكولاي كوزانوف»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، «تشاتام هاوس»، بلندن، أن «الوضع القائم خلق العديد من التداعيات، أولها أن روسيا لا تعارض مباشرة الولايات المتحدة، بل تستغل إحساس خيبة أمل المنطقة في علاقاتها مع الأخيرة من خلال خطوات عملية تتناقض مع سياسة واشنطن والاتحاد الأوروبي، بحيث تستغل أوجه القصور في السياسات الغربية بالشرق الأوسط»، ففي ليبيا على سبيل المثال، يمكن لموسكو أن تتصرف من دون قيود تقريبًا على سياستها، وذلك بالنظر إلى نأي واشنطن بنفسها عن الصراع، بيد أن ذلك لا ينطبق على دولة العراق، التي تحتفظ فيها واشنطن بوجود عسكري وسياسي لها.
ويلفت التقرير إلى العديد من التحديات التي تقف أمام الطموح الروسي في المنطقة والتي منها؛ أولا: الوجود الأمريكي، الذي لا يزال رغم تراجعه يقف عائقا أمام هذه الطموحات. ثانيا: المشكلات التي قد تواجهها موسكو في محاولة موازنة علاقاتها مع العديد من الدول الإقليمية المتنازعة. وفي هذا الصدد يؤكد «رومر» أن «الميزة التي تتمتع بها روسيا منذ عودتها للعب دور سياسي في الشرق الأوسط هي قدرتها على التحدث مع جميع الأطراف». ومع ذلك، فإن هذه الميزة تعتبر أيضًا عاملا رئيسيا لزعزعة نفوذها في المنطقة. فمع مرور الوقت سيكون لزامًا عليها أن تتحيز إلى أحد أطراف الصراع. ثالثا: افتقارها إلى الموارد المالية اللازمة لتأسيس نفسها كممثل إقليمي قوي ومستدام. وفي هذا السياق، يقول «نيكولاي كوزانوف» إن «القدرات المالية والاقتصادية لروسيا لن تضاهي أبدًا قدرات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فهي تتمتع بمزايا تجارية واقتصادية في عدد قليل من المجالات، لكن هذا لا يعوض فشلها في تنويع اقتصادها والفجوة التكنولوجية المتزايدة لديها بالمقارنة مع الدول الغربية».
وعلى النقيض مما تطرق إليه التقرير بخصوص طموحات روسيا في المنطقة؛ يرى بعض المحللين أنه على الرغم من أن موسكو تسعى بالفعل إلى تأكيد نفسها في الشرق الأوسط لتأمين مصالحها، فمن الخطأ افتراض أنها ترغب في الوصول إلى القوة التي كان يتمتع بها ذات يوم الاتحاد السوفيتي، والتي تتمتع بها الولايات المتحدة اليوم. فبوتين من وجهة نظر هؤلاء لا يرغب في تحميل كاهل بلاده عبء الهيمنة الإقليمية وتوريطها في نزاعات متعددة، لكنه يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من المكاسب بأقل تكلفة ممكنة، فلقد استطاع أن يكون لنفسه صورة أمام العالم أجمع باعتباره القائد الذي يدحض فكرة التورط في الصراعات المحلية والنزاعات السياسية، مفضلاً احترام خصوصية السياسات الداخلية للدول الأخرى. 
على العموم، نجح التقرير في تقديم دراسة تحليلية شاملة تؤسس تصنيفا واقعيا لأهداف روسيا ونفوذها اليوم في المنطقة، وحدود الدور الذي من الممكن أن تلعبه من خلال التركيز على الطريقة التي تبنتها في إعادة تنشيط سياستها الإقليمية، مستغلة النزاعات وحالة الانقسام بين كافة الأطراف في المنطقة وسط تراجع الهيمنة الأمريكية. 
وعلى الرغم من المبالغة في تقدير مدى طموحات روسيا في الشرق الأوسط، والتي تتعارض مع ما يراه كثير من المحللين فإن «رومر» أكد أن التأثير الروسي في الشرق الأوسط من غير المرجح أن يستمر إلى الأبد، نظرًا إلى القيود والتناقضات المتأصلة لديه، وإن كان يلعب حاليًا دورًا رئيسيًا في تشكيل التطورات والاتجاهات الإقليمية، ولعل ذلك هو ما يعزز من القوة التحليلية للتقرير، ويجعله مفيدا لواضعي السياسات والمهتمين بالموضوع. 

{ انتهى  }
bottom of page